فصل: الكلام في الأحوال مع الأشعرية

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الفصل في الملل والنحل **


 الكلام في الأحوال مع الأشعرية

ومن وافقهم قال أبو محمد وأما الأحوال التي ادعتها الأشعرية فإنهم قالوا أن هاهنا أحوالاً ليست حقاً ولا باطلاً ولا هي مخلوقة ولا غير مخلوقة ولا هي موجودة ولا معدومة ولا هي معلومة ولا هي مجهولة ولا هي أشياء ولا هي لا أشياء و قالوا من هذا علم العالم بأن له علماً ووجوده لوجوده و قالوا فإن قلتم أن لكم علماً بأن لكم علماً بالباري تعالى وبما تعلمونه وأن لكم وجوداً لوجودكم ما تجدونه سألناكم ألكم علم بعلمكم بأن لكم علماً وهل لكم وجود لوجودكم وجودكم ما تجدونه فإن أقررتم بذلك لزمكم أن تسلسلوا هذا أبداً إلى ما لا نهاية له ودخلتم في قول أصحاب معمر والدهرية‏.‏

وإن منعتم من ذلك سئلتم عن صحة الدليل على صحة منعكم ما منعتم من ذلك وصحة إيجابكم ما أوجبتم من ذلك وكذلك قالوا في قدم القديم وحدث المحدث وبقاء الباقي وفناء الفاني وظهور الظاهر وخفاء الخافي وقصد القاصد ونية الناوي وزمان الزمان وما أشبه ذلك‏.‏

و قالوا لو كان للباقي بقاء ولبقاء الباقي بقاء وهكذا أبداً إلى ما لا نهاية له قالوا فهذا يوجب وجود أشياء لا نهاية لها وهذا محال وهكذا قالوا في قدم القديم وقد قدمه وقدم قدم قدمه إلى ما لا نهاية له وفي حدوث المحدث وحدث حدثه وحدث حدث حدثه إلى ما لا نهاية له وهكذا قالوا في زمان الزمان وزمان زمان الزمان إلى ما لا نهاية وفي فناء الفاني وفناء فنائه وفناء فناء فنائه إلى ما لا نهاية له وكذلك ظهور الظاهر وظهور ظهوره وظهور ظهور ظهوره إلى ما لا نهاية له وكذلك القصد والقصد إلى القصد والقصد إلى القصد إلى القصد وهكذا إلا ما لا نهاية له وكذلك النية والنية للنية والنية للنية للنية إلى ما لا نهاية له وكذلك تحقيق الحق وتحقيق تحقيق الحق إلى ما لا نهاية له‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ أفكار السوء إذا ظن صاحبها أنه يدقق فيها فهي أضر عليه لأنها تخرجه إلى التخليط الذي ينسبونه إلى السوفسطائية وإلى الهذيان المحض وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ وللكلام في هذا أبين من أن يشكل على عامي فكيف على فهم فكيف على عالم والحمد لله ونحن نتكلم على هذا إن شاء الله عز وجل كلاماً ظاهراً لائحاً لا يخفى على ذي حس سليم وبالله تعالى نتأيد فنقول وبالله تعالى التوفيق‏.‏

أما العدم فإنه من صفات الزمن ومن فيه تقول ملك أقدم من ملك وزمان أقدم من زمان وشيخ أقدم من شيخ أي أنه متقدم بزمانه عليه والزمان متقدم بذاته على الزمان ليس في العالم قدم قديم الأزماني هذا هو حكم اللغة التي لا يوجد فيها غيره أصلاً فالقدم هو التقدم والتقدم متقدم بنفسه على غيره فقط لأن القدم موجود معلوم وهي صفة المتقدم فلا يجوز إنكاره وأما قدم القديم فباطل لأنه لم يأت به نص ولا قام بوجوده دليل وما كان هكذا فهو باطل وأما وجود الموجود فبضرورة الحس أن الموجود حق وأنه يقتضي واجداً وأن الواجد يقتضي وجوداً لما وجد هو فعل الواجد وصفته فهو حق لما ذكرنا ووجود الواجد يوجد بذاته لا بوجود هو غيره لأن وجود الوجود لم يأت به نص ولا برهان وما كان هكذا فهو باطل وأما الباري عز وجل فإنه يجد نفسه ويعلمها ويجد ما دونه ويعلمه بذاته لا بوجود هو غيره ولا بعلم هو غيره فقط وكذلك العالم منا يقتضي علماً ولا بد هو فعل العالم وصفته المحمولة فيه عرضاً بيقين ويزيد ويذهب ويثبت أطواراً هذا ما لا شك فيه والعالم منا يعلم أنه يحمل علماً بعلمه ذلك لا بعلم هو غير علمه لأن العالم بالعلم لم يوجب وجوده نص ولا برهان وما كان هكذا فهو باطل وكذلك الباقي مثاله بلا شك والبقاء هو اتصال وجوده مدة بعد مدة وهذا معنى صحيح لا يجوز أن ينكره عاقل فإما بقاء البقاء فلم يأت بإيجاب وجود نص ولا قام به برهان وما كان هكذا فهو باطل ولا يجوز أن يوصف الله تعالى بالبقاء ولا أنه باق كما لا يوصف بالخلد ولا بأنه خالد ولا بالدوام ولا بأنه دائم ولا بالثبات ولا بأنه ثابت ولا بطول العمر ولا بطول المدة لأن الله عز وجل لم يسم نفسه بشيء من ذلك لا في القرآن ولا على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا قال ه قط أحد من الصحابة رضي الله عنهم ولا قام به برهان بل البرهان قام ببطلان ذلك لأن كل ما ذكرنا من صفات المخلوقين ولا يجوز أن يوصف الله تعالى بشيء من صفات المخلوقين إلا أن يأتي نص بأن يسمي باسم ما فيوقف عنده ولأن كل ما ذكرنا أعراض فيما هو فيه والله تعالى لا يحمل الأعراض وأيضاً فإنه عز وجل لا في زمان ولا يمر عليه زمان ولا هو متحرك ولا ساكن لكن ي قال لم يزل الله تعالى ولا يزال وأما الفناء فإنه مدة للعدم تعدها أجزاء الحركات والسكون ولا يجوز أن تكون للمدة مدة لكنها مدة في نفسها ولنفسها فالقول بالزمان حق لأنه محسوس معلوم وأما القول بزمان الزمان فهو شيء لم يأت به نص ولا قام بحصته برهان وما كان هكذا فهو باطل وأما ظهور الظاهر فهو متيقن معلوم والظهور صفة الظاهر وفعله تقول ظهر يظهر ظهوراً والظهور معلوم ظاهر بنفسه ولا يجوز أن ي قال أن للظهور ظهوراً لأنه لم يأت به نص ولا قام بصحته برهان وما كان هكذا فهو باطل وأما خفاء الخافي فهو عدم ظهوره والعدم ليس شيئاً كما قدمنا وأما القصد إلى الشي والنية له فإنما هما فعل القاصد والناوي وإرادتهما الشيء والقول بهما واجب لأنهما موجودات بالضرورة يجدهما كل أحد من نفسه ويعلمهما من غيره علماً ضرورياً وأما القصد إلى القصد والنية للنية فباطل لأنه لم يأت به نص ولا أوجبهما دليل وما كان هكذا فهو باطل والقول به لا يجوز فهذا وجه البيان فيما خفي عليهم حتى أتوا فيه بهذا التخليط والحمد لله رب العالمين‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ ثم نقول لهم أخبرونا إذا قلتم هذه أحوال أهي معان ومسميات مضبوطة محدودة متميز بعضها من بعض أم ليست معاني أصلاً ولا لها مسميات ولا هي مضبوطة ولا محدودة متميز بعضها من بعض فإن قالوا ليست معاني ولا محدودة ولا مضبوطة ولا متيزاً بعضها من بعض ولا لتك الأسماء مسميات أصلاً قيل له فهذا هو معنى العدم حقاً فلم قلتم أنها ليست معدومة ثم لم سميتموها أحوالاً وهي معدومة ولا تكون التسمية إلا شرعية أو لغوية وتسميتكم هذه المعاني أحوالاً ليست تسمية شريعة ولا لغوية ولا مصطلحاً عليها لبيان ما يقع عليه فهي باطل محض بيقين فإن قالوا هي معان مضبوطة ولها مسميات محدودة متميزة بعضها من بعض قيل لهم هذه صفة الموجودة ولا بد فلم قلتم أنها ليست موجودة وهذا ما لا مخلص لهم منه وبالله تعالى التوفيق‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ وي قال لهم أيضاً هذه الأحوال التي تقولون أمعقولة هي أم غير معقولة فإن قالوا هي معقولة كانوا قد أثبتوا لها معاني وحقائق من أجلها عقلت فهي موجودة ولا بد والعدم ليس معقولاً لكنه لا معنى لهذه اللفظة أصلاً وبالله تعالى التوفيق وي قال لهم أيضاً هل الأحوال في اللغة وفي المعقول إلا صفات لذي حال وهل الحال في اللغة إلا بمعنى التحول من صفة إلى أخرى ي قال هذا حال فلان اليوم وكيف كانت حالك بالأمس وكيف يكون الحال غداً فإذا الأمر هكذا ولا بد فهذه الأحوال موجودة حق مخلوقة ولا بد فظهر فساد قولهم وأنه من أسخف الهذيان والمحال الممتنع الذي لا يرضي به عاقل وي قال لهم أيضاً قبل كل شيء وبعده فمن أين سميتم هذا الاسم يعني الأحوال ومن أين قلتم لا هي معلومة ولا هي مجهولة ولا حق ولا باطل ولا مخلوقة ولا غير مخلوقة ولا معدومة ولا موجودة ولا هي أشياء ولا غير أشياء أي دليل حداكم على هذا الحكم أقرآن أم سنة أم إجماع أو قول متقدم أم لغة أم ضرورة عقل أم دليل إقناعي أم قياس فهاتوه ولا سبيل إليه فلم يبق إلا الهذر والهوس وقلة المبالاة بما يكتبه اللكان ويسأل عنه رب العالمين والتهاون باستخفاف أهل العقول لمن قال بهذا الجنون ولا مزيد ونعوذ بالله من الخذلان وما ينبغي لهم بعد هذا أن ينكروا على من أتى بما لا يعقل ككون الجسم في مكانين والجسمين في مكان واحد وكون شيء قائماً قاعداً وكون أشياء غير متناهية في وقت واحد فإن قالوا هذا كفر قيل لهم بل الكفر ما جئتم به لأنه إبطال الحقائق كلها والعجب كل العجب أنهم لا يجوزون قدرة الله تعالى على ما هو محال عندهم وقد أتوا في هذا الفصل بعين المحال ونعوذ بالله من الخذلان‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ وكلامهم في هذه المسألة كلام ما سمع بأسخف منه ولا قول السوفسطائية ولا قول النصارى ولا قول الغالية على أن هذه الفرق أحمق الفرق أقوالاً أما السوفسطائية فإنهم قطعوا على أن الأشياء باطل لا حق أو أنها حق عند من هي عنده حق وباطل عند من هي عند باطل وأما النصارى والغالية فإن كانت هاتان الفرقتان قد أتتا بالعظائم فإنهم قطعوا بأنها حق وأما هؤلاء المخاذيل فإنهم أتوا بقول حققوه وأبطلوه ولم يحققوه وأبطلوه ولم يحققوه ولا أبطلوه كل ذلك معاً في وقت واحد من وجه واحد وهذا لا يأتي به إلا مبرسم أو مجنون أو ماجن يريد أن يضحك من معه‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ ونحن نتكلف بيان هذا التخليط التي أتوا به وإن كان مكتفياً بسماعه ولكن التزيد من إبطال الباطل ما أمكن حسن فنقول وبالله تعالى التوفيق أن قولهم لا هي حق ولا هي باطل فإن كل ذي حس سليم يدري أن كل ما لم يكن حقاً فهو باطل وما لم يكن باطلاً فهو حق هذا لا يعقل غيره فكيف وقد قال الله تعالى ‏"‏ فماذا بعد الحق إلا الضلال ‏"‏ و قال تعالى ‏"‏ ليحق الحق ويبطل الباطل ‏"‏ و قال تعالى ‏"‏ هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون ‏"‏ و قال تعالى ‏"‏ خلق كل شيء فقدره ‏"‏ و قال تعالى ‏"‏ وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ أَن قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا فَهَلْ وَجَدتُّم مَّا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قَالُواْ نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَن لَّعْنَةُ اللّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ ‏"‏ و قال ‏"‏ فهل وجدتم ما وعد ربكم حقاً قالوا نعم ‏"‏‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ وهؤلاء قوم ينتمون إلى الإسلام ويصدقون القرآن ولولا ذلك ما احتججنا عليهم فقد قطع الله تعالى أنه ليس إلا حق أو باطل وليس إلا علم أو جهل وهو عدم العلم وليس إلا وجود أو عدم إلا شيء مخلوق أو الخالق أو لفظة العدم التي لا تقع على شيء ولا على مخلوق فقد أكذبهم الله عز وجل في دعواهم ولا يشك ذو حس سليم أن ما لم يكن باطلاً فهو حق وما لم يكن حقاً فهو باطل وما لم يكن معلوماً فهو مجهول وما لم يكن مجهولاً فهو معلوم وما لم يكن شيئاً فهو لا شيء وما لم يكن لا شيء فهو شيء وما لم يكن موجوداً فهو معدوم وما لم يكن معدوماً فهو موجوداً وما لم يكن مخلوقاً فهو غير مخلوق وما لم يكن غير مخلوق فهو مخلوق هذا كله معلوم ضرورة ولا يعقل غيره فإذ هذا كذلك ولا فرق بين ما قال وه في هذه القضية وبين القول اللازم لهم ضرورة وهو أن تلك الأحوال معدومة موجودة معاً حق باطل معاً معلومة مجهولة معاً مخلوقة غير مخلوقة معاً شيء لا شيء معاً وهذا هو نفس قولهم ومقتضاه لأنهم إذ قالوا ليست حقاً فقد أوجبوا أنها باطل وإذ قالوا ولا هي باطل فقد أوجبوا أنها حق وهكذا في سائر ما قال وه فأعجبوا لعقول وسع هذا فيها وسخموا به ورقهم وعجب آخر وهو قال أبو محمد‏:‏ ولم يخلصوا من هذا من قول معمر في وجوب وجود أشياء لا نهاية لها أو أن يصيروا إلى قولنا في إبطال هذه التي يسمونها أحوالاً وإعدامها جملة وما نعلم هوساً إلا وقد انتظمته هذه الم قال ة ونعوذ بالله من الخذلان‏.‏

مسألة أخرى‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ قال ت الأشعرية ليس في العالم شيء له بعض أصلاً ولا شيء له نصف ولا ثلث ولا ربع ولا خمس ولا سدس ولا سبع ولا ثمن ولا تسع ولا عشر ولا جزء أصلاً واحتجوا في هذا بأن قالوا يلزم من قال أن الواحد عشر العشر وجزء من العشرة وبعض العشرة أن يقول ولا بد أن الواحد عشر من نفسه وجزء من نفسه وبعض نفسه وأنه جزء لغيره عشر لغيره لأن العشرة تسعة وواحد فلو كان الواحد عشر العشرة وبعضاً للعشرة وجزأ للعشرة لكان عشراً لنفسه وللتسعة التي هي غيره ولكان جزأ بعضاً لنفسه وللتسعة التي هي غيره‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ وهذا خبط شديد أول ذلك أنه رد على الله تعالى مجرد وتكذيب للقرآن وخلاف اللغة بل لجميع اللغات ومكابرة للعقول وللحواس قال تعالى ‏"‏ وإذا خلا بعضهم إلى بعض ‏"‏ و قال تعالى ‏"‏ يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا ‏"‏ و قال تعالى ‏"‏ فلأمه الثلث فلامه السدس فلها النصف ولهن الربع ولهن الثمن ‏"‏ فقد كذبوا القرآن نصاً ثم هذا موجود في كل طبيعة في كل لغة ومحسوس بالحواس ثم ي قال لهم لا فرق بينكم وبين من صحح ولم ينكر كون الشيء بعض نفسه وبعض غيره وجزأ لنفسه وجزأ لغيره وعشر نفسه وعشر غيره واحتج في تصحيح ذلك بالحجة التي رمتم بها إبطال ذلك ولا مزيد وكلاكما متكسع في ظلمة الخطأ ثم نقول لهم وبالله تعالى التوفيق ليس الأمر كما ظننتم بل الأسماء موضوعة للتفاهم وللتميز بعض المسميات من بعض فالعشرة اسم للعشرة أفراد مجتمعات في العدد كذلك لتسعة وواحد ولثمانية اثنين ولسبعة وثلاثة ولستة وأربعة وخمسة وخمسة قال تعالى ‏"‏ ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعتم تلك عشرة كاملة ‏"‏ وهكذا جميع الأعداد لا ينكر ذلك إلا مخذول منكر للمشاهدة فبالضرورة ندري أن كل جزء من تلك الجملة فهو بعض لها وعشر لها وقسم منها لنسبة ما ولا ي قال هو جزء لنفسه ولا جزء لغيره ولا أنه بعض لنفسه ولا أنه بعض لغيره ولا عشر لنفسه ولا عشر لغيره ومثل هذا البلق الذي هو اسم لاجتماع السواد والبياض معاً فالبياض بلا شك بعض البلق والسواد بعض البلق وليس البياض جزأ لنفسه وللسواد ولا بعضاً لنفسه وللسواد وكل واحد منهما جزء للبلق وكذلك الإنسان اسم للجملة المجتمعة من أعضائه ولا شك في أن العين بعض الإنسان وجزء من الإنسان ولا يحتمل أن ي قال العين بعض نفسها وبعض الأذن واليد ولا أن ي قال الأذن جزء لنفسها وللعين والأنف وهكذا في سائر الأعضاء فعلى قول هؤلاء النوكى يلزمهم أن لا تكون العين بعض الإنسان وأن يقولوا أن العين بعض نفسها وبعض الأذن ومن أبطل الأبعاض والأجزاء فقد أبطل الجمل لأن الجمل ليست شيئاً البتة غير أبعاضها ومن أبطل الجمل فقد بطل الكل والجزء وأبطال العالم بكل ما فيه وإذا بطل العالم بطل الدين والعقل وهذه حقيقة السفسطة وما نعلم في الأقوال أحمق من هذه المسألة ومن التي قبلها نعوذ بالله من الخذلان‏.‏

 الكلام في خلق الله عز وجل للعالم

في كل وقت وزيادته في كل دقيقة قال أبو محمد‏:‏ وذكر عن النظام أنه قال أن الله تعالى يخلق كل ما خلق في وقت واحد دون أن يعدمه وأنكر عليه القول بعض أهل الكلام‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ وقول النظام هاهنا صحيح لأننا إذا أثبتنا أن خلق الشيء هو الشيء نفسه فخلق الله تعالى قائم في كل موجود أبداً ما دام ذلك الموجود موجوداً وأيضاً فإنا نسألهم ما معنى قولكم خلق الله تعالى أمر كذا فجوابهم أن معنى خلقه تعالى أخرجه من العدم إلى الوجود فنقول لهم أليس معنى هذا القول منكم أنه أوجده ولم يكن موجود أفلا بد من قولهم نعم فنقول لهم وبالله تعالى التوفيق فالخلق هو الإيجاد عندكم بلا شك فأخبرونا أليس الله تعالى موجداً لكل موجود أبداً مدة وجوده فإن أنكروا ذلك أحالوا وأوجبوا أن الأشياء موجودة وليس الله تعالى موجداً لها الآن وهذا تناقض وإن قالوا نعم فإن الله تعالى موجد لكل موجود أبداً ما دام موجوداً قلنا لهم هذا هو الذي أنكرتم بعينه قد أقررتم به لأن الإيجاد هو الخلق نفسه والله تعالى موجد لكل ما يوجد في كل وقت أبداً وإن لم يفنه قبل ذلك والله تعالى خالق لكل مخلوق في كل وقت وإن لم يفنه قبل ذلك وهذا ما لا مخلص لهم منه وبالله تعالى التوفيق وبرهان آخر وهو قول الله تعالى ‏"‏ ولقد خلقناكم ثم صورناكم ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم ‏"‏ وصح البرهان بأن الله تعالى خلق التراب والماء الذي يتغذى آدم وبنوه بما استحال عنهما وصارت فيه دماء وأحاله الله تعالى منياً فثبت بهذا يقيناً أن جميع أجساد الحيوان والنوامى كلها متفرقة ثم جمعها الله تعالى فقام منها الحيوان والنوامى و قال عز وجل ‏"‏ ثم أنشأناه خلقاً آخر ‏"‏ و قال تعالى ‏"‏ خلقاً من بعد خلق ‏"‏ فصح أن في كل حين يحيل الله تعالى أحوال مخلوقاته فهو خلق جيد والله تعالى يخلق في كل حين جميع العالم مستأنفاً دون أن يفنيه وبالله تعالى التوفيق‏.‏

 الكلام في الحركة والسكون

قال أبو محمد‏:‏ ذهبت طائفة إلى أن لا حركة في العالم وأن كل ذلك سكون واحتجوا بأن قالوا وجدنا الشيء ساكناً في المكان الأول ساكناً في المكان الثاني وهكذا أبداً فعلمناه أن كل ذلك سكون وهذا قول منسوب إلى معمر بن عمرو العطار مولى بني سليم أحد رؤساء المعتزلة وذهبت طائفة إلى أنه لا سكون أصلاً وإنما هي حركة اعتماد وهذا قول ينسب إلى إبراهيم ابن سيار النظام واحتج غير النظام من أهل هذه الم قال ة بأن قالوا السكون إنما هو عدم الحركة والعدم ليس شيئاً و قال بعضهم هو ترك الحركة وترك الفعل ليس فعلاً ولا هو معنى وذهبت طائفة إلى إبطال الحركة والسكون معاً و قالوا إنما يوجد متحرك وساكن فقط وهو قول أبي بكر بن كيسان الأصم وذهبت طائفة إلى أن الجسم في أول خلق الله تعالى ليس ساكناً ولا متحركاً وذهبت طائفة إلى إثبات الحركة والسكون إلا أنها قال ت أن الحركات أجسام وهو قول هشام بن الحكم شيخ الإمامية وجهم بن صفوان السمرقندي وذهبت طائفة إلى إثبات الحركة والسكون وأن كل ذلك أعراض وهذا هو الحق فأما من قال بنفي الحركة وأن كل ذلك سكون فقولهم يبطل بأننا قد علمنا بأن السكون إنما هو إقامة في المكان وأن الحركة نقلة عن ذلك المكان وزوال عنه ولا شك في أن الزوال عن الشيء هو غير الإقامة فيه فإذا الأمر كذلك فواجب أن يكون لهذين المعنيين المتغايرين لكل واحد منهما اسم غير اسم الآخر كما هما متغايران فاتفق في اللغة أن يسمى أحدهما حركة ويسمى الآخر سكوناً وأما قولهم أن كل حركة فهي سكون في المكان الثاني فليس كذلك لأن السكون إقامة لا نقلة فيها فإذا وجدت نقلة متصلة لا إقامة فيها فهي غير الإقامة التي لا نقلة فيها ونوع آخر له أيضاً أشخاص غير أشخاص النوع الآخر وبيقين ندري أن الشيء المتحرك من مكان إلى مكان فإنه وإن جاوز كل مكان يمر عليه فإنه غير واقف ولا مقيم هذا ما لا شك فيه يعرف ذلك بضرورة الحس فصح أن الحركة معنى وأن السكون معنى آخر وأما من قال أن السكون حركة اعتماد فاحتجاج لا يعقل فلا وجه للاشتغال به وأما حجة من احتج بأن السكون عدم الحركة والعدم ليس شيئاً فليس كما قال لأنه عقب الحركة إقامة موجودة ظاهرة فهي وإن كان معها بوجودها عدمت الحركة فليست هي عدماً كما أن القيام معنى صحيح موجود وأن كان قد عدمت معه سائر الحركات والأعمال من القعود والاتكاء والاضطجاع وي قال لهم ما الفرق بينكم وبين من قال بل الحركة ليست معنى لأنها عدم السكون فهذا ما لا انفكاك عنه وكذلك من قال أيضاً أن المرض ليس معنى لأنه عدم الصحة والصحة ليست معنى لأنها عدم المرض ومثل هذا كثير جداً وفي هذا إبطال الحقائق كلها وأما من قال أن الترك ليس معنى فخطأ لأن كل من دون الله تعالى فإنه إن ترك معنى ما وفعلاً ما فلا بد له ضرورة من فعل آخر ومعنى آخر هذا أمر يوجد بالمشاهدة والحس لا يمكن غير ذلك فصح أن ترك من دون الله تعالى لفعل ما هو أيضاً فعل صحيح بوجوده منه سمي تاركاً لما ترك وليس الله تعالى كذلك بل لم يزل غير فاعل ولم يكن بذلك فاعلاً للترك لأن ترك الإنسان للفعل كما بينا عرض موجود فيه وهو حامل له ولو كان لترك الله تعالى للفعل معنى لكان قائماً به تعالى معاذ الله من هذا من أن يكون عز وجل حاملاً لعرض فلو كان أيضاً قائماً بنفسه لكان جوهراً والترك ليس جوهراً ولو كان قائماً بغيره عز وجل لكان تعالى فاعلاً له غير تارك فصح الفرق وبالله تعالى التوفيق وأما من أبطل الحركة والسكون معاً فقول فاسد أيضاً لأنه أثبت المتحرك والساكن مع ذلك وبيقين يدري كل ذي حس سليم أن من تحرك سكن فإن تلك العين المتحركة ثم الساكنة هي عين واحدة وذات واحدة لم تتبدل ذاتها وإنما تبدل عرضها المحمول فيها فبالضرورة ندري أنه حدث فيه أو له أو منه معنى من أجله استحق أن يسمى متحركاً وأنه حدث فيه أو له أو منه أيضاً معنى من أجله استحق أن يسمى ساكناً ولولا ذلك لم يكن بأن يسمى متحركاً أحق به منه بأن يسمى ساكناً هذا أمر محسوس مشاهد فذلك المعنى هو الحركة أو السكون ولا فرق بينه وبين من أثبت الضارب والقائم والآكل وأبطل الضرب ونفى الحركة والسكون ولا فرق بينه وبين من أثبت الضارب والقائم والآكل وأبطل الضرب والأكل والقيام وهذه سفسطة صحيحة وبالله تعالى التوفيق وأما من قال أن الجسم في أول خلق الله عز وجل ليس ساكناً ولا متحركاً فكلام فاسد أيضاً لأنه لا يتوهم ولا يعقل معنى ثالث ليس حركة ولا سكوناً هذا شيء لا يتشكل في النفس ولا يثبته عقل ولا سمع وأيضاً فلأنه قول لا دليل عليه فهو باطل ولا شك في أن الله تعالى إذا خلق الجسم فإنما يخلقه في زمان ومكان فإذ لا شك في ذلك فالجسم في أول حدوثه ساكن في المكان الذي خلقه الله تعالى فيه ولو طرفة عين ثم إما يتصل سكونه فيه فتطول إقامته فيه وإما أن ينتقل عنه فيكون متحركاً عنه فإن قال قائل بل هو متحرك لأنه خارج عن العدم إلى الوجود قيل له هذا منك تسمية فاسدة لأن الحركة في اللغة وهي التي يتكلم عليها إنما هي نقلة من مكان إلى مكان والعدم ليس مكاناً ولم يكن المخلوق شيئاً قبل أن يخلقه الله تعالى فحال خلقه هي أول أحواله التي لم يكن هو قبلها فكيف أن يكون له حال قبلها فلم ينتقل أصلاً بل ابتداه الله تعالى الآن وأما الجسم الكلي الذي هو جرم العالم جملة وهو الفلك الكلي فكل جزء منه مقدر مفروض فإن أجزائه المحيطة به من أربع جهات والجزء الذي يليه في جهة عمق الفلك هو مكانه ولا مكان له في الصفحة التي لا تلي الأجزاء التي ذكرنا والله تعالى يمسكه بقوته كما شاء ولا يلاقيه من صفحته العليا شيء أصلاً ولا هنالك مكان ولا زمان ولا خلاء ولا ملا‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ ورأيت بعض النوكى ممن ينتمي إلى الكلام قولاً ظريفاً وهو أنه قال أن الله تعالى إذ خلق الأرض خلق جرماً عظيماً يمسكها لئلاً تتحدر سفلاً فحين خلق ذلك الجرم أعدمه وخلق آخر وهكذا أبداً بلا نهاية لأنه زعم لو أبقاه وقتين لاحتاج إلى مسك وهكذا أبداً إلى ما لا نهاية له كأن هذا الأنوك لم يسمع قول الله تعالى ‏"‏ إن الله يمسك السماوات والأرض إن تزولا ولئن زالتا إن أمسكهما من أحد من بعده ‏"‏ فصح أن الله تعالى يمسك الكل كما هو دون عمد لا زيادة ولا جرم آخر ولو أن هؤلاء المخاذيل إذ عدموا العلم تمسكوا باتباع القرآن والسكوت عن الزيادة والخبر عن الله بما لا علم لهم به لكان أسلم لهم في الدين والدنيا ولكن من يضلل الله فلا هادي له ونعوذ بالله من الضلال وأما من قال أن الحركات أجسام فخطأ لأن الجسم في اللغة موضوع للطويل العريض العميق ذي المساحة وليست الحركة كذلك فليست جسماً ولا يجوز أن يوقع عليها اسم جسم إذ لم يأت ذلك في اللغة ولا في الشريعة ولا أوجبه دليل وأوضح أنها ليست جسماً فهي بلا شك عرض وأما من قال أن الحركة ترى فقول فاسد لأنه قد صح إن البصر لا يقع في هذا العالم إلا على لون في ملون فقط وبيقين ندري أن الحركة لا لون لها فإذ لا لون لها فلا سبيل إلى أن ترى وإنما علمنا كون الحركة لأننا رأينا لون المتحرك في مكان ما ثم رأيناه في مكان آخر علمنا أن ذلك الملون قد انتقل عن مكان إلى مكان بلا شك وهذا المعنى هو الحركة أو بأن يحس الجسم قد انتقل من مكان إلى مكان فيدري حينئذ من لامسه وإن كان أعمى أو مطبق العينين أنه تحرك وبرهان ما قلنا أن الهواء لما لم يكن له لون لم يره أحد وإنما يعلم تموجه وتحركه بملاقاته فإنه منتقل وهو هبوب الرياح وكذلك أيضاً علمنا حركة الصوت بإحساسنا الصوت يأتي من مكان ما وكذلك القول في الحركة في المشموم من الطيب والنتن وحركة المذوق فبطل قولاً من قال أن الحركات ترى وصح أن الحركة ليست لوناً ولا لها لون ولو كان لأمكن لآخر أن يدعي أنه يسمع الحركة وهذا خطأ لأنه لا يسمع إلا الصوت ولأمكن لآخر أن يدعي أن الحركة تلمس وهذا خطأ وإنما يلمس المجسة من الخشونة والإملاس أو غير ذلك من المجسات والحق من هذا إنما هو أن الحركة تعرف وتوجد بتوسط كل ما ذكرنا وبالله تعالى التوفيق‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ والحركات النقلية المكانية تنقسم قسمين لا ثالث لهما أما حركة ضرورية أو اختيارية فالاختيارية هي فعل النفوس الحية من الملائكة والإنس والجن وساير الحيوان كله وهي التي تكون إلى جهات شتى على غير رتبة معلومة الأوقات وكذلك السكون الاختياري والحركة الضرورية تنقسم قسمين لا ثالث لهما أما طبيعة وأما قسرية والاضطرارية هي الحركة الكائنة ممن ظهرت منه عن غير قصد منه إليها وأما الطبيعة فهي حركة كل شيء غير حي مما بناه الله عليه كحركة الماء إلى وسط المركز وحركة الأرض كذلك وحركة الهواء والنار إلى مواضعها وحركة الأفلاك والكواكب دوراً وحركة عروق الجسد النوابض والسكون الطبيعي هو سكون كل ما ذكرنا في عنصره وأما القسرية فهي حركة كل شيء دخل عليه ما يحيل حركته عن طبيعته أو عن اختياره إلى غيرها كتحريك المرء قهراً وتحريكك الماء علواً والحجر وكذلك وكتحريك النار سفلاً والهواء وكذلك وكتصعيد الهواء والماء وكعكس الشمس لحر النار والسكون القسري هو توقيف الشيء في غير عنصره أو توقيف المختار كرهاً وبالله تعالى التوفيق‏.‏

 الكلام في التولد

قال أبو محمد‏:‏ تنازع المتكلمون في معنى عبروا عنه بالتولد وهو أنهم اختلفوا فيمن رمى سهماً فجرح به إنساناً أو غيره وفي حرق النار وتبريد الثلج وساير الآثار الظاهرة من الجمادات ف قال ت طايفة ما تلود من ذلك عن فعل إنسان أو حي فهو فعل الإنسان والحي واختلفوا فيما تولد من غير حي ف قال ت طائفة هو فعل الله و قال ت طائفة ما تولد من غير حي فهو فعل الطبيعة و قال آخرون كل ذلك فعل الله عز وجل‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ فهؤلاء مبطلون للحقائق غائبون عن موجبات العقول‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ والأمرأ بين من أن يطول فيه الخطاب والحمد لله رب العالمين والصواب في ذلك أن كل ما في العالم من جسم أو عرض في جسم أو أثر من جسم فهو خلق الله عز وجل فكل ذلك فعل الله عز وجل بمعنى أنه خلقه وكل ذلك مضاف بنص القرآن وبحكم اللغة إلى ما ظهرت منه من حي أو جماد قال تعالى ‏"‏ فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت وأنبتت من كل زوج بهيج ‏"‏ فنسب عز وجل الاهتزاز والإنبات والربو إلى الأرض و قال ‏"‏ تلفح وجوههم النار ‏"‏ فأخبر تعالى أن النار تلفح و قال تعالى ‏"‏ وإن يستغيثوا يغاثوا بماء كالمهل يشوي الوجوه ‏"‏ فأخبر عز وجل أن الماء يشوي الوجوه و قال تعالى ‏"‏ ومن قتل مؤمناً خطأ فتحرير رقبة مؤمنة ‏"‏ فسمى تعالى المخطئ قاتلاً وأوجب عليه حكماً وهو لم يقصد قتله قط لكنه تولد عن فعله و قال تعالى ‏"‏ إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه ‏"‏ فأخبر تعالى أن الكلم والعمل عرض من الأعراض و قال تعالى ‏"‏ أفإن مات أو قتل انقلبتم ‏"‏ و قال تعالى ‏"‏ على شفا جرف هار فانهار به ‏"‏ ولم تختلف أمة ولا لغة في صحة قول القائل مات فلا وسقط الحائط فنسب الله تعالى وجميع خلقه الموت إلى الميت والسقوط إلى الحائط والانهيار إلى الجرف لظهور كل ذلك منها ليس في القرآن ولا في السنن ولا في العقول شيء غير هذا الحكم ومن خالف هذا فقد اعترض على الله تعالى وعلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى جميع الأمم وعلى جميع عقولهم وهذه صفة من عظمت مصيبته بنفسه ومن لا دين له ولا عقل ولا حياء ولا علم وصح بكل ما ذكرنا أن إضافة كل أثر في العالم إلى الله تعالى هي على غير إضافته إلى من ظهر منه وإنما إضافته إلى الله تعالى لأنه خلقه وأما إضافته إلى من ظهر منه أو تولد عنه فلظهوره منه اتباعاً للقرآن ولجميع اللغات ولسنن رسول الله صلى الله عليه وسلم وكل هذه الإخبارات وكلتا هاتين الإضافتين حق لا مجاز في شيء من ذلك لأنه لا فرق بين ما ظهر من حي مختار أو من حي مختار في أن كل ذلك ظاهر مما ظهر منه وأنه مخلوق لله تعالى إلا أن الله تعالى خلق في الحي اختياراً لما ظهر منه ولم يخلق الاختيار فيما ليس حياً ولا مريداً فما تولد عن فعل فاعل فهو فعل الله عز وجل لمعنى أنه خلقه وهو فعل ما ظهر منه بمعنى أنه ظهر منه قال الله تعالى ‏"‏ فلم تقتلوهم ولكن الله قتلهم وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى ‏"‏ و قال تعالى ‏"‏ أفرأيتم ما تحرثون أأنتم تزرعونه أم نحن الزارعون ‏"‏ وهذا نص قولنا وبالله تعالى التوفيق‏.‏

 الكلام في المداخلة والمجاورة والكمون

قال أبو محمد‏:‏ ذهب القائلون بأن الألوان أجسام إلى المداخلة ومعنى هذه اللفظة أن الجسمين يتداخلان فيكونان جميعاً في مكان واحد‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ وهذا كلام فاسد لما سنبينه إن شاء الله تعالى في باب الكلام في الأجسام والأعراض من ديواننا هذا وبالله التوفيق من ذلك أن كل جسم فله مساحة وإذا كان كذلك فله مكان زائد وإذ له مكان بقدر مساحته ولا بد فإن كل جسم زيد عليه جسم آخر فإن ذلك الجسم الزائد يحتاج إلى مكان زائد من أجل مساحته الزائدة هذا أمر يعلم بالمشاهدة فإن اختلط الأمر على من لم يتمرن في معرفة حدود الكلام من أجل ما يرى في الأجسام المتخلخلة من تخلل الأجسام المايعة لها فإنما هذا لأن في خلال أجزاء تلك الأجسام المتخلخلة خروقاً صغاراً مملوءة هواء فإذا صب عليها الماء أو مائع ما ملأ تلك الخروق وخرج عنها الهواء الذي كان فيها وهذا ظاهر للعين محسوس خروج الهواء عنها بنفاخات وصوت من كل ما يخرج عنه الهواء مسرعاً والذي ذكرنا فإنه إذا تم خروج الهواء عنها وزيد في عدد المائع ربا واحتاج إلى مكان زائد وأما الذي ذكرنا قبل فإنه في الأجسام المكتنزة كماء صب على ماء أو دهن على دهن أو دهن على ماء وهكذا في كل شيء من هذه الأنواع وغيرها فصح يقيناً أن الجسم إنما يكون في الجسم على سبيل المجاورة كل واحد في حيز غير حيز الآخر وإنما تكون المداخلة بين الأعراض والأجسام وبين الأعراض والأعراض لأن العرض لا يشغل مكاناً فيجد اللون والطعم والمجسة والرائحة والحر والبرد والسكون كل ذلك مداخل للجسم ومداخل بعضه بعضاً ولا يمكن أن يكون جسم واحد في مكانين ولا جسمان في مكان واحد ذم أن المجاورة بين الجسمين تنقسم ثلاثة أقسام أحدها أن يخلع أحد الجسمين كيفياته ويلبس كيفية الآخر كنقطة رميتها في دم خل أو دن مرق أو في لبن أو في مداد أو شيء يسير من بعض هذه في بعض أو من غيرها كذلك فإن الغالب منها يسلب المغلوب كيفياته الذاتية والغيرية ويذهبها عنه ويلبسا معاً كيفيات آخر كما الزاج إذا جاور العفص وكجسم الجير إذا جاور جسم الزرنيخ وكسائر المعاجن كلها والدقيق والماء وغير ذلك والثالث أن لا يخلع واحد منهما عن نفسه كيفية من كيفياته لا الذاتية ولا الغيرية بل يبقى كل واحد منهما كما كان كزيت أضيف إلى ماء وكحجر إلى حجر وثوب إلى ثوب فهذا حقيقة الكلام في المداخلة والمجاورة وأما الكمون فإن طائفة ذهبت إلى أن النار كامنة في الحجر وذهبت طائفة إلى إبطال هذا و قال ت أنه لا نار في الحجر أصلاً وهو قول ضرار بن عمرو‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ وكل طائفة منهما فإنها تفرط على الأخرى فيما تدعى عليها فضرار ينسب إلى مخالفيه أنهم يقولون بأن النخلة بطولها وعرضها وعظمها كامنة في النواة وأن الإنسان بطوله وعرضه وعمقه وعظمه كامن في المني وخصومه ينسبون إليه أنه يقول ليس في النار حر ولا في العنب عصير ولا في الزيتون زيت ولا في الإنسان دم‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ وكلا القولين جنون محض ومكابرة للحواس والعقول والحق في ذلك أن في الأشياء ما هو كامن كالدم في الإنسان والعصير في العنب والزيت في الزيتون والماء في كل ما يعتصر منه وبرهان ذلك أن كل ما ذكرنا إذا خرج مما كان كامناً فيه ضمر الباقي لخروج ما خرج وخف وزنه لذلك عما كان عليه قبل خروج الذي خرج ومن الأشياء ما ليس كامناً كالنار في الحجر والحديد لكن في حجر الزناد والحديد الذكر قوة إذا تضاغطا احتدم ما بينهما من الهواء فاستحال ناراً وهكذا يعرض لكل شيء منحرق فإن رطوباته تستحيل ناراً ثم دخاناً ثم هواء إذ في طبع النار استخراج ناريات الأجسام وتصعيد رطوباتها حتى يفني كل ما في الجسم من الناريات والمائيات عنه بالخروج ثم لو نفخت دهرك على ما بقي من الأرضية المحضة وهي الرماد لم يحترق ولا اشتعل إذ ليس فيه نار فتخرج ولا ماء فيتصعد وكذلك دهن السراج فإنه كثير الناريات بطبعه فيستحيل بما فيه من المائية اليسيرة دخاناً هوائياً وتخرج ناريته حتى يذهب كله وأما القول في النوى والبزور والنطف فإن في النواة وفي البزر وفي النطفة طبيعة خلقها في كل ذلك الله عز وجل وهي قوة تحتذب الرطوبات الواردة عليها من الماء والزبل ولطيف التراب الواد كل ذلك على النواة والبزر فتحيل كل ذلك إلى ما في طبعها إحالته إليه فيصير عوداً ولحاء وورقاً وزهراً وثمراً وخوصاً وكرماً ومثل الدم الوارد على النطفة فتحيله طبيعته التي خلقها الله تعالى فيه لحماً ودماً وعظماً وعصباً وعروقاً وشرائين وعضلاً وغضاريف وجلداً وظفراً وشعراً وكل ذلك خلق الله تعالى فتبارك الله أحسن الخالقين والحمد لله رب العالمين‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ وذهب الباقلاني وسائر الأشعرية إلا أنه ليس في النار حر ولا في الثلج برد ولا في الزيتون زيت ولا في العنب عصير ولا في الإنسان دم وهذا أمر ناظرنا عليه من لاقيناه منهم والعجب كل العجب قولهم هذا التخليط وإنكارهم ما يعرف بالحواس وضرورة العقل ثم هم يقولون مع هذا أن للزجاج والحصا طعماً ورائحة وأن لقشور العنب رائحة وأن للفلك طعماً ورائحة وهذا إحدى عجائب الدنيا‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ وما وجدنا لهم في ذلك حجة غير دعواهم أن الله تعالى خلق كل حر نجده في النار عند مسنا إياها وكذلك خلق البرد في الثلج عند مسنا إياه وكذلك خلق الزيت عند عصر الزيتون والعصير عند عصر العنب والدم عند القطع والشرط‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ فإذا تعلقوا من هذا بحواسهم فمن أين قالوا أن للزجاج طعماً ورائحة للفلك طعماً ورائحة وهذا موضع تشهد الحواس بتكذيبهم في أحدهما ولا تدرك الحواس الآخر وي قال لهم لعل الناس ليس في الأرض منهم أحد وإنما خلفهم الله عند رؤيتكم لهم ولعل بطونكم لا مضارين فيها ورؤوسكم لا أدمغة فياه لكن الله عز وجل خلق كل ذلك عند الشدخ والشق‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ وقول الله تعالى يكذبهم إذ قال تعالى ‏"‏ يا نار كوني برداً وسلاماً على إبراهيم ‏"‏ فلولا أن النار تحرق بحرها ما كان يقول الله عز وجل ‏"‏ قل نار جهنم أشد حراً لو كانوا يفقهون ‏"‏ فصح أن الحر في النار موجود وكذلك أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نار جهنم أشد حراً من نارنا هذه سبعين درجة و قال تعالى ‏"‏ وشجرة تخرج من طور سيناء تنبت بالدهن وصبغ للآكلين ‏"‏ فأخبر أن الشجرة تنبت بها و قال تعالى ‏"‏ ومن ثمرات النخيل والأعناب تتخذون منه سكراً ورزقاً حسناً ‏"‏ فصح أن السكر والعصير الحلال مأخوذ من الثمر والأعناب ولو لم يكونا فيهما ما أخذا منهما وقد أطبقت الأمة كلها على إنكار هذا الجنون وعلى القول هذا أحلى من العسل وأمر من الصبر وأحر من النار ونحمد الله على السلامة‏.‏

 الكلام في الاستحالة

قال أبو محمد‏:‏ احتج الحنيفيون ومن وافقهم في قولهم أن النقطة من البول والخمر تقع في الماء فلا يظهر لها فيه أثر أنها باقية فيه بجسمها إلا أن أجزاءها دقت وخفيت عن أن تحس وكذلك الحبر يرمى في اللبن فلا يظهر له فيه اثر وكذلك الفضة اليسير تذاب في الذهب فلا يظهر لها فيه أثر وهكذا كل شيء قالوا لو أن ذلك المقدار من الماء يحيل ماء النقطة من الخمر تقع فيه لكان أكثر من ذلك المقدار أقوى على الإحالة بلا شك ونحن نجد كلما زدنا نقط الخمر وقلتم أنتم قد استحالت ماء ونحن نزيد فلا يلبث أن تظهر الخمر وهكذا في كل شيء قالوا فظهرت صحة قال أبو محمد‏:‏ فقلنا لهم أن الأمور إنما هي على ما رتبها الله عز وجل وعلى ما توجد عليه لا على قضاياكم المخالفة للحس ولا ينكر أن يكون مقدار ما يفعل فعلاً ما فإذا كثر لم يفعل ذلك الفعل كالمقدار من الدواء ينفع فإذا زيد فيه أو نقص منه لم ينفع ونحن نقر معكم بما ذكرتم ولا ننكره فنقول أن مقداراً ما من الماء يحيل مقداراً ما مما يلقى فيه من الخل أو الخمر أو العسل ولا يحيل أكثر منه مما يلقى فيه ونحن نجد الهواء يحيل الماء هواء حتى إذا كثر الهواء المستحيل من الماء لم يستحل من الماء بل أحال الهواء ماء وهكذا كلما ذكرتم وإنما العمدة هاهنا على ما شهدت به أوائل العقول والحواس من أن الأشياء إنما تختلف باختلاف طبائعها وصفاتها التي منها تقوم وحدودها وبها تختلف في اللغات أسماؤها فللماء صفات وطبائع إذا وجدت في جرم ما سمى ماء فإذا عدمت منه لم يسم ماء ولم يكن ماء وهكذا كل ما في العالم ولا نحاشي شيئاً أصلاً ومن المحال أن تكون حدود الماء وصفاته وطبعه في العسل أو في الخمر وهكذا كل شيء في العالم فأكثره يستحيل بعضه إلى بعض فأي شيء وجدت فيه حدود شيء ما سمي باسم ما فيه تلك الحدود إذا استوفاها كلها فإن لم يستوف إلا بعضها وفارق أيضاً شيئاً من صفاته الذاتية فهو حينئذ شيء غير الذي كان وغير الذي مازج كالعسل الملقى في الأبارج ونقطة مداد في لبن وما أشبه ذلك وهذه رتبة العالم في مقتضى العقول وفيما تشاهد الحواس والذوق والشم واللمس ومن دفع هذا خرج عن المعقول ويلزم الحنيفيين من هذا اجتناب ماء البحر لأن فيه على عقولهم عذرة وبول لا ورطوبات ميتة وكذلك مياه جميع الأنهار أولها عن آخرها نعم وماء المطر أيضاً ونجد الدجاج يتغذى بالميتة والدم والعذرة والكبش يسقي خمراً أن ذلك كله قد استحال عن صفات كل ذلك وطبعه إلى لحم الدجاج والكبش فحل عندنا وعندهم ولو كثر تغذيها به حتى تضعف طبيعتها عن إحالته فوجد في خواصها وفيها صفة العذرة والميتة حرم أكله وهذا هو الذي أنكروه نفسه وهو مقرون معنا في أن الثمار والبقول تتغذى بالعذرة وتستحيل فيها مدة أنها قد حلت وهذا هو الذي أنكروه نفسه وبالله تعالى التوفيق‏.‏

 الكلام في الطفرة

قال أبو محمد‏:‏ نسب قوم من المتكلمين إلى إبراهيم النظام أنه قال أن المار على سطح الجسم يسير من مكان إلى مكان بينهما أماكن لم يقطعها هذا المار ولا مر عليها ولا حاذاها ولا حل فيها‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ وهذا عين المحال والتخليط إذا إن كان هذا على قوله في أنه ليس في العالم إلا جسم حاشا الحركة فقط فإنه وإن كان قد أخطأ في هذه القصة فكلامه الذي ذكرنا خارج عليه خروجاً صحيحاً لأن هذا الذي ذكرنا ليس موجود البتة غلا حاسة البصر فقط وكذلك إذا أطبقت بصرك ثم فتحته لاقى نظرك خضرة السماء والكواكب التي في الأفلاك البعيدة بلا زمان كما يقع على أقرب ما يلاصقه من الألوان لا تفاضل بين الأدراكين في المدة أصلاً فصح ضرورة أن خلا البصر لو قطع المسافة التي بين الناظر وبين الكواكب ومر عليها لكان ضرورة بلوغه إليها في مدة أطول من مدة مروره على المسافة التي ليس بينه وبين من يراه فيها إلا يسير أو أقل فصح يقيناً أن البصر يخرج من الناظر ويقع على كل مرئي قرب أو بعد دون أن يمر في شيء من المسافة التي بينهام ولا يحلها ولا يحازيها ولا يقطعها وأما في سائر الأجسام فهذا محال ألا ترى أنك تنظر إلى الهدم وإلى ضرب القصار بالثوب في الحجر من بعد فتراه ثم يقيم سويعة وحينئذ تسمع صوت ذلك الهدم وذلك الضرب فصح يقيناً أن الصوت يقطع الأماكن وينتقل فيها وأن البصر لا يقطعها ولا ينتقل فيها فإذا صح البرهان بشيء ما لم يعترض عليها إلا عديم عقل أو عديم حياء أو عديم علم أو عديم دين وبالله تعالى التوفيق‏.‏

 الكلام في الإنسان

قال أبو محمد‏:‏ اختلف الناس في هذا الاسم على ما يقع فذهبت طائفة إلى أنه إنما يقع على الجسد دون النفس وهو قول أبي الهذيل العلاف وذهبت طائفة إلى أنه إنما يقع على النفس دون الجسد وهو قول إبراهيم النظام وذهبت طائفة إلى أنه إنما يقع عليهما معاً كالبلق الذي لا يقع إلا على السواد والبياض معاً‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ واحتجت الطائفة التي ذكرنا بقول الله عز وجل ‏"‏ خلق الإنسان من صلصال كالفخار ‏"‏ وبقول الله تعالى ‏"‏ فلينظر الإنسان مم خلق خلق من ماء دافق يخرج من بين الصلب والترائب ‏"‏ وبقوله تعالى ‏"‏ أيحسب الإنسان أن يترك سدى ألم يك نطفة من مني يمنى ثم كان علقة فخلق فسوى ‏"‏ وبآيات أخر غير هذه وهذه بلا شك صفة للجسد لا صفة للنفس لأن الروح إنما تنفخ بعد تمام خلق الإنسان الذي هو الجسد واحتجت الطائفة الأخرى بقوله تعالى ‏"‏ إن الإنسان خلق هلوعاً إذا مسه الشر جزوعاً وإذا مسه الخير منوعاً ‏"‏ وهذا بلا خلاف صفة النفس لا صفة الجسد لأن الجسد موات والفعالة هي النفس وهي المميزة الحية حاملة لهذه الأخلاق وغيرها‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ وكلا هذين الاحتجاجين حق وليس أحدهما أولى بالقول من الآخر ولا يجوز أن يعارض أحدهما بالآخر لأن كليهما من عند الله عز وجل وما كان من عند الله فليس بمختلف قال تعالى ‏"‏ ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً ‏"‏ فإذ كل هذه الآيات حق فقد ثبت أن للإنسان اسم يقع على النفس دون الجسد ويقع أيضاً على الجسد دون النفس ويقع أيضاً على كليهما مجتمعين فنقول في الحي هذا إنسان وهو مشتمل على جسد وروح ونقول للميت هذا إنسان وهو جسد لا نفس فيه ونقول أن الإنسان يعذب قبل يوم القيامة وينعم يعني النفس دون الجسد وأما من قال أنه لا يقع إلا على النفس والجسد معاً فخطأ يبطله الذي ذكرنا من النصوص التي فيها وقوع اسم الإنسان على الجسد دون النفس وعلى النفس دون الجسد وبالله تعالى التوفيق‏.‏

 الكلام في الجواهر والأعراض

وما الجسم وما النفس قال أبو محمد‏:‏ اختلف الناس في هذا الباب فذهب هشام بن الحكم إلى أنه ليس في العالم غلا جسم وأن الألوان والحركات أجسام واحتج أيضاً بأن الجسم إذا كان طويلاً عريضاً عميقاً فمن حيث وجدته وجدت اللون فهي فوجب الطول والعرض والعمق للون أيضاً فإذا وجب ذلك للون فاللون أيضاً طويل عريض عميق وكل طويل عريض عميق جسم فاللون جسم وذهب إبراهيم بن سيار النظام إلى مثل هذا سواء سواء غلا الحركات فإنه قال هي خاصة أعراض وذهب ضرار بن عمرو إلى أن الأجسام مركبة من الأعراض وذهب سائر الناس إلى أن الأجسام هي كل ما كان طويلاً عريضاً عميقاً شاغلاً لمكان وإن كل ما عداه من لون أو حركة أو مذاق أو طيب أو محبة فعرض وذهب بعض الملحدين إلى نفي الأعراض ووافقهم على ذلك بعض أهل القبلة‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ أما الجسم فمتفق على وجوده وأما الأعراض فإثباتها بين واضح بعون الله تعالى وهو أننا لم نجد في العالم غلا قائماً بنفسه حاملاً لغيره أو قائماً بغيره لا بنفسه محمولاً في غيره ووجدنا القائم بنفسه شاغلاً لمكان يملأه وجدنا الذي لا يقوم بنفسه لكنه محمول في غيره لا يشغل مكاناً بل يكون الكثير منها في مكان حاملها القائم بنفسه هذه قسمة لا يمكن وجود شيء في العالم بخلافها ولا وجود قسم زائد على ما ذكرنا فإذ ذلك كذلك فبالضرورة علمنا أن القائم بنفسه الشاغل لمكانه هو نوع آخر غير القائم بغيره الذي لا يشغل مكاناً فوجب أن يكون لكل واحد من هذين الجنسين اسم يعبر عنه ليقع التفاهم بيننا فاتفقنا على أن سمينا القائم بنفسه الشاغل لمكانه جسماً واتفقنا على أن سمينا ما لا يقوم بنفسه عرضاً وهذا بيان برهان مشاهد ووجدنا الجسم تتعاقب عليه الألوان والجسم قائم بنفسه فبينا نراه أبيض صار أخضر ثم أحمر ثم أصفر كالذي نشاهده في الثمار والأصباغ فبالضرورة نعلم أن الذي عدم وفني من البياض والخضرة وسائر الألوان هو غير الذي بقي موجوداً لم يفن وأنهما جميعاً غير الشيء الحامل لهما لأنه لو كان شيء من ذلك هو الآخر لعدم بعدمه فدل بقاؤه بعده على أنه غيره ولا بد إذ من المحال الممتنع أن يكون الشيء معدوماً موجوداً في حالة واحدة في مكان واحد في زمان واحد وأيضاً فإن الأعراض هي الأفعال من الأكل والشرب والنوم والجماع والمشي والضرب وغير ذلك فمن أنكر الأعراض فقد أثبت الفاعلين وأبطل الأفعال ونفى الفاعلين وكل الطائفتين مبطلة لما يشاهد بالحواس ويدرك بالعقل سوفسطائيون حقاً لأن من الأعراض ما يدرك بالبصر وهو اللون إذا ما لا لون له لا يدرك بالشم كالنتن والطيب ومنها ما يدرك بالذوق كالحلاوة والمرارة والحموضة والملوحة ومنها ما يدرك باللمس كالحر والبرد ومنها ما يدرك السمع كحسن الصوت وقبحه وجهارته وجفوته ومنها ما يدرك بالعقل كالحركة والحمق والعقل والعدل والجوار والعلم والجهل فظهر فساد قول مبطلي الأعراض الأعراض يقيناً والحمد لله رب العالمين فإذ قد صح كل ما ذكرنا فإنما الأسماء عبارات وتمييز للمسميات ليتوصل بها المخاطبون إلى تفاهم مراداتهم من الوقوف على المعاني وفصل بعضها من بعض ليس للأسماء فائدة غير هذه فوجب ضرورة أن يوقع على القائم بنفسه الشاغل لمكانه الحامل لغيره أسماء تكون عبارة عنه وأن يوقع أيضاً على القائم بغيره لا بنفسه المحمول الذي لا يشغل مكاناً اسماً آخر يكون أيضاً عبارة عنه لينفصل بهذين الاسمين كل واحد من ذينك المسميين عن الآخر وإن لم يكن هذا وقع التخليط وعدم البيان واصطلحنا على أن سمينا القائم بنفسه الشاغل للمكان جسماً واتفقنا على أن سمينا القائم بغيره لا بنفسه عرضاً لأنه عرض في الجسم وحدث فيه هذا هو الحق المشاهد بالحس المعروف بالعقل وما عدا هذا فهذيان وتخليط لا يعقله قائله فكيف غيره فصح بهذا كله وجود الأعراض وبطلان قول من أنكرها وصح أيضاً بما ذكرنا أن حد اللون والحركة وكل ما لا يقوم بنفسه هو غير حد القائم بنفسه فإذ ذلك كذلك فلا جسم إلا القائم بنفسه وكل ما عداه فعرض فلاح بهذا صحة قول من قال بذلك وبطل قول هشام والنظام وبالله تعالى التوفيق‏.‏

وأما احتجاج هشام بوجود الطول والعرض والعمق الذي توهمها في اللون فإنما هو طول الجسم الملون وعرضه وعمقه فقط وليس للون طول ولا عرض ولا عمق وكذلك الطعم والمجسة والرائحة وبرهان ذلك أنه لو كان للجسم طول وعرض وعمق وكان للون طول غير طول الملون الحامل له وعرض آخر غير عرض الحامل له وعمق آخر غير عمق الملون الحامل له لاحتاج كل واحد منهما ذراع وعرضه ذراع وعمقه ذراع ثم يسعان جميعاً في واحد ليس هو إلا ذراع في ذراع فقط ويلزمه مثل هذا في الطعم والرائحة والمجسة لأن كل هذه الصفات توجد من كل جهة من جهات الجسم الذي هي فيه كما يوجد اللون ولا فرق وقد يذهب الطعم حتى يكون الشيء لا طعم له الرائحة والطعم والمجسة لا للون ولا للطعم مكان ولا للرائحة ولا للمجسة وقد نجد جسماً طويلاً عريضاً عميقاً لا لون له وهو الهواء ساكنه ومتحركه وبالضرورة ندري أنه لو كان له لون لم يزد ذلك في مساحته شيئاً‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ فإن بلغ الجهل بصاحبه إلى أن يقول ليس الهواء جسماً سألناه عما في داخل الزق المنفوخ ما هو وعما يلقي الذي يجرى فرساً جواداً بوجهه وجسمه فإنه لا شك في أنه جسم قوي متكثر محسوس وبرهان آخر وهو أن كل أحد يدري أن الطول والعرض والعمق لو كان لكل واحد منهما طول وعرض وعمق لاحتاج كل واحد منهما أيضاً إلى طول آخر وعرض آخر وعمق آخر وهكذا مسلسلاً إلى ما لا نهاية له وهذا باطل فبطل قول إبراهيم وهشام وبالله تعالى التوفيق وأما قول ضرار أن الأجسام مركبة من الأعراض فقول فاسد جداً لأن الأعراض قد صح كما ذكرنا أنها لا طول لها ولا عرض ولا عمق ولا تقوم بنفسها وصح أن الأجسام ذات أطوال وعروض وأعماق وقائمة بأنفسها ومن المحال أن يجتمع ما لا طول له ولا عرض ولا عمق مع مثله فيتقوم منها ما له طول وعرض وعمق وإنما غلط فياه من توهم أن الأجسام مركبة من السطوح وأن السطوح مركبة من الخطوط والخطوط مركبة من النقط‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ وهذا خطأ على كل حال لأن السطوح المطلقة فإنما هي تناهي الجسم وانقطاعه في تماديه من أوسع جهاته وعدم امتداده فقط وأما الخطوط المطلقة فإنما هي تناهي جهة السطح وانقطاع تماديها وأما النقط فهي تناهي جهات الجسم من أحد نهاياته كطرف السكين ونحوه فكل هذه الأبعاد إنما هي عدم التمادي ومن المحال أن يجتمع عدم فيقوم منه موجود وإنما السطوح المجسمة والخطوط المجسمة والنقط المجسمة فإنما هي أبعاض الجسم وأجزاؤه ولا تكون الأجزاء أجزاء إلا بعد القسمة فقط على ما نذكر بعد هذا إن شاء الله تعالى‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ وذهب قوم من المتكلمين إلى إثبات شيء سموه جوهراً ليس جسماً ولا عرضاً وقد ينسب هذا القول إلى بعض الأوائل وحد هذا الجوهر عند من أثبته أنه واحد بالذات قابل للمتضادات قائم بنفسه يحمل من كل عرض عرضاً واحداً فقط كاللون والطعم والرائحة والمجسة‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ وكلا هذين القولين والقول الذي اجتمعا عليه في غاية الفساد والبطلان أو لا أنها كلها دعاوي مجردة لا يقوم على صحة شيء منها دليل أصلاً لا برهاني ولا إقناعي بل البرهان العقلي والحسي يشهدان ببطلان كل ذلك وليس يعجز أحد أن يدعى ما شاء وما كان هكذا فهو باطل محض وبالله تعالى نتأيد وأما نحن فنقول أنه ليس في الوجود إلا الخالق وخلقه وأنه ليس الخلق إلا جوهراً حاملاً لأعراضه وأعراضاً محمولة في الجوهر لا سبيل إلى تعدي أحدهما عن الآخر فكل جوهر جسم وكل جسم جوهر وهما اسمان معناهما واحد ولا مزيد وبالله تعالى التوفيق‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ ونجمع إن شاء الله تعالى كل شيء أوقعت عليه هتان الطائفتان اسم جوهر لا جسم ولا عرض ونبين إن شاء الله تعالى فساد كل ذلك بالبراهين الضرورية كما فعلنا في سائر كلامنا وبالله تعالى التوفيق‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ حققنا ما أوقع عليه بعض الأوائل ومن قلدهم اسم جوه و قالوا أنه ليس جسماً ولا عرضاً فوجدناهم يذكرون الباري تعالى والنفس والهيولى والعقل والصورة وعبر بعضهم عن الهيولى بالطينة وبعضهم بالخميرة والمعنى في كل ذلك واحد إلا أن بعضهم قال المراد بذلك الجسم متعرياً من جميع أعراضه وأبعاده وبعضهم قال المراد بذلك الشيء الذي منه كون هذا العالم ومنه تكون على حسب اختلافهم في الخالق أو في إنكاره وزاد بعضهم في الجوهر الخلا والمدة اللذين لم يزالا عندهم يعنى بالخلا المكان المطلق لا المكان المعهود ويعني بالمدة الزمان المطلق لا الزمان المعهود‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ وهذه أقوال شيء منها لمن ينتمي إلى الإسلام وإنما هي للمجوس والصابئين والدهرية والنصاري في تسميتهم الباري تعالى جوهراً فإنهم سموه في أمانتهم التي لا يصح عندهم دين لملكي ولا لنسطوري ولا ليعقوبي ولا لهاروني إلا باعتقادها وإلا فهو كافر بالنصرانية قطعاً حاشا تسميته الاباري تعالى جوهراً فإنه للمجسمة أيضاً وحاشا القول بأن النفس جوهر لا جسم فإنه قد قال به العطار أحد رؤساء المعتزلة وأما المنتمون إلى الإسلام فإن الجوهر الذي ليس جسماً ولا عرضاً ليس هو عندهم شيئاً إلى الأجزاء الصغار التي لا تتجزأ إليها تنحل الأجسام بزعمهم وقد ذكر هذا عن بعض الأوائل أيضاً فهذه ثمانية أشياء كما ذكرنا لا نعلم أحداً سمي جوهراً ليس جسماً ولا عرضاً وغيرها إلا أن قوماً جهالاً يظنون في القوي الذاتي أنها جواهر وهذا جهل منهم لأنها بلا خلاف محمولة فيما هي غير قائمة بنفسها وهذه صفة العرض لا صفة الجوهر بلا خلاف‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ فأما الخلا والمدة فقد تقدم إفسادنا لهذا القول في صدر ديواننا بالبراهين الضرورية وفي كتابنا الموسوم بالتحقيق في نقض كتاب العلم الإلهي لمحخمد بن زكريا الطيب وحللنا كل دعوى أوردها هو وغيره في هذا المعنى بأبين شرح والحمد لله رب العالمين كثيراً وأثبتنا في صدر كتابنا هذا وهنالك أنه ليس في العالم خلا البتة وأنه كله كرة مصمتة لا تخلل فيها وأنه وليس وراءها خلاء لا ملاء ولا شيء البتة وأن المدة ليست للأمد أحدث الله الفلك بما فيه من الأجسام الساكنة والمتحركة وأعراضها وبينا في كتاب التقريب لحدود الكلام أن الآلة المسماة الزرافة وسارقة الماء والآلة التي تدخل في إحليل من به أسر البول براهين ضرورية بتحقيق أن لا خلاء في العالم أصلاً وأن الخلاء عند القائلين به إنما هو مكان لا تمكن فيه وهذا محال بما ذكرنا لأنه لو خرج الماء من الثقب الذي في أسفل سارقة الماء وقد شد أعلاها لبقي مكانه خالياً بلا متمكن فيه فإذا لم يمكن ذلك أصلاً ولا كان فيه بنية العالم وجوده وقف الماء باقياً لا ينهرق حتى إذا فتح أعلاها ووجد الهواء مدخلاً خرج الماء وانهرق لوقته وخلفه الهواء وكذلك الزرافة والآلة المتخذة لمن به أسر البول فإنه إذا حصلت تلك في داخل الإحليل وأول المثانة ثم جبذ الزر المغلق ليقها إلى خارج اتبعه البول ضرورة وخرج إذ لم يخرج لبقي ثقب الآلة خالياً لا شيء فيه وهذا باطل ممتنع وقد بينا في صدر كتابنا كما اعترض به الملحدون المخالفون لنا في هذا المكان فأغني عن إعادته فإن قال قائل فالماء الذي اخترعه له والثريد الذي اخترع له من أين اخترعه وهي أجسام محدثة والعالم عندكم ملأ لا خلا فيه ولا تخلخل ولا يكون الجسمان في مكان واحد قلنا وبالله تعالى التوفيق لا يخلو هذا من أحد وجهين لا ثالث لهما إما أن يكون الله عز وجل أحال أجزاء من الهوى ماء وتمراً وثريداً فالله أعلم أي ذينك كان والله على كل شيء قدير فسقط قولهم في الخلا والمدة والحمد لله رب العالمين‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ وأما الصورة فكيفية بلا شك وهي تخليط الجواهر وتشكلها إلا أنها قسمان أحدهما ملازم كالصورة الكلية لا تفارق الجواهر البتة ولا توجد دونها ولا تتوهم الجواهر عارية عنها والآخر تتعاقب أنواعه وأشخاصه على الجواهر كانت قال الشيء عن تثليث إلى تربيع ونحو ذلك فصح أنها عرض بلا شك وبالله تعالى التوفيق وأما العقل فلا خلاف بين أحد له عقل سليم في أنه عرض محمول في النفس وكيفية برهان ذلك أنه يقبل الأشد والأضعف فنقول عقل أقوى من عقل وأضعف من عقل وله ضد وهو الحمق ولا خلاف في الجواهر أنها لا ضد لها وإنما التضاد في بعض الكيفيات فقط وقد اعترض في هذا بعض من يدعي له علم الفلسفة ف قال ليس في العقل ضد لكن لوجوده ضد وهو عدمه فقلت للذي ذكر لي هذا البحث أن هذه سفسطة وجهل لو جاز له هذا التخليط لجاز لغيره أن يقول للعلم ضد لكن لوجوده ضد وهو عدمه ولا لشيء من الكيفيات ضد ولكن لوجودها ضد وهو عدمها فيبطل التضاد من جميع الكيفيات وهذا كلام يعلم فساده بضرورة العقل ولا فرق بين وجود الضد للعقل وبين وجوده للعلم ولسائر الكيفيات وهي باب واحد كله وإنما هي صفات متعاقبة كلها موجودة فالعقل موجود ثم يعقبه الحمق وهو موجود كما أن العلم موجود ويعقبه الجهل وكما أن النجدة موجودة ويعقبها الجبن وهو موجود وهذا أمر لا يخفى على من له أقل تمييز وكذلك الجواهر لا تقبل الأشد والأضعف في ذواتها وهذا أيضاً قول كل من له أدنى فهم من الأوايل والعقل عند جميعهم هو تمييز الفضائل من الرذائل واستعمال الفضائل واجتناب الرذائل والتزام ما يحسن به المغبة في دار البقاء وعالم الجراء وحسن السياسة فيما يلزم المرء في دار الدنيا وبهذا أيضاً جاءت الرسل عليهم السلام قال الله عز وجل ‏"‏ أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها ‏"‏ و قال تعالى ‏"‏ كذلك يبين الله لكم الآيات لعلكم تعقلون ‏"‏ و قال تعالى ‏"‏ أم تحسب أن أكثرهم يسمعون أو يعقلون إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل سبيلا ‏"‏ و قال تعالى ‏"‏ ويجعل الرجس على الذين لا يعقلون ‏"‏ و قال تعالى ‏"‏ إن شر الدواب عند الله الذين كفروا فهم لا يؤمنون ‏"‏ فصح أن العقل هو الإيمان وجميع الطاعات و قال تعالى عن الكفار ‏"‏ وقالوا لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير ‏"‏ ومثل هذا في القرآن كثير فصح أن العقل فعل النفس وهو عرض محمول فيها وقوة من قواها فهو عرض كيفية بلا شك وإنما غلط من غلط في هذا لأنه رأى لبعض الجهال المخلطين من الأوائل أن العقل جوهر وأن له فلكاً فعول على ذلك من لا علم له وهذا خطأ كما أوردنا وبالله تعالى التوفيق وأيضاً فإن لفظة العقل عربية أتى بها المترجمون عبارة عن لفظة أخرى يعبر عنها في اليونانية أو في غيرها من اللغات عما يعبر بلفظة العقل عنه في اللغة العربية هذا ما لا خفاء به عند أحد ولفظة العقل في لغة العرب إنما هي موضوعة لتمييز الأشياء واستعمال الفضائل فصح ضرورة أنها معبرة بها عن عرض وكان مدعى خلاف ذلك رديء العقل عديم الحياء مباهتاً بلا شك ولقد قال بعض النوكي الجهال لو كان العقل عرضاً لكانت الأجسام أشرف منه فقلت للذي أتاني بهذا وهل للجوهر شرف إلا بأعراضه وهل شرف جوهر قط إلا بصفاته لا بذاته هل يخفى هذا على أحد ثم قلنا ويلزمهم هذا نفسه على قولهم السخيف في العلم والفضائل أن لا يخالفوننا في أنها أعراض فعلي مقدمتهم السخيفة يجب أن تكون الأجسام كلها اشرف منها وهذا كما ترى وأما الهيولى فهو الجسم نفسه الحامل لأعراضه كلها وإنما أفردته الأوائل بهذا الاسم إذ تكلموا عليه مفرداً في الكلام عليه عن سائر أعراضه كلها من الصورة وغيرها مفصولاً في الكلام عليه خاصة عن أعراضه وإن كان لا سبيل إلى أن يوجد خلياً عن أعراضه ولا متعرياً منها أصلاً ولا يتوهم وجوده كذلك ولا يتشكل في النفس ولا يتمثل ذلك أصلاً بل هو محال ممتنع جملة كما أن الإنسان الكلي وجميع الأجناس والأنواع ليس شيء منها غير أشخاصه فقط فهي الأجسام بأعيانها إن كان النوع نوع أجسام وهي أشخاص الأعراض إن كان النوع نوع أعراض ولا مزيد لأن قولنا الإنسان الكلي يزيد النوع إنما معناه أشخاص الناس فقط لا أشياء أخر وقولنا الحمرة الكلية إنما معناه أشخاص الحمرة حيث وجدت فقط فبطل بهذا تقدير من ظن من أهل الجهل أن الجنس والنوع والفصل جواهر لا أجسام وبالله تعالى التوفيق لكن الأوائل سمتها وسمت الصفات الأوليات الذاتيات جوهريات لا جواهر وهذا صحيح لأنها منسوبة إلى الجواهر لملازمتها لها وأنها لا تفارقها البتة ولا يتوهم مفارقتها لها وبالله تعالى التوفيق فبطل قولهم في الخلا والمدة والصورة والعقل والهيولى والحمد لله رب العالمين وأما الباري تعالى فقد أخطأ من سماه جوهراً من المجسمة ومن النصارى لأن لفظة الجوهر لفظة عربية ومن أثبت الله عز وجل ففرض عليه إذ أقر أنه خالقه وإلاهه ومالك أمره ألا يقدم عليه في شيء إلا بعهد منه تعالى وإلا يخبر عنه إلا بعلم متيقن ولا علم ههنا إلا ما أخبر به عز وجل فقط فصح يقيناً أن تسمية الله عز وجل جوهراً والأخبار عنه بأنه جوهر حكم عليه تعالى بغير عهد منه وأخبار عنه تعالى بالكذب الذي لم يخبر قط تعالى به عن نفسه ولا سمي به نفسه وهذا إقدام لم يأتنا قط به برهان بإباحته وأيضاً فإن الجوهر حامل لأعراض ولو كان الباري تعالى حاملاً لعرض لكان مركباً من ذاته وأعراضه وهذا باطل وأما النصارى فليس لهم أن يتسوروا على اللغة العربية فيصرفوها عن موضعها فبطل أن يكون تعالى جوهراً لبراءته عن حد الجوهر وبطل أن يسمي جوهراً لأنه تعالى لم يسم نفسه به وبالله تعالى التوفيق فبطل قول من سمي الله تعالى جوهراً وأخبر عنه أنه تعالى جوهر ولله تعالى الحمد فلم يبق إلا النفس والجزء الذي لا يتجزأ ونحن إن شاء الله تعالى نتكلم فيهما كلاماً مبيناً ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ اختلف الناس في النفس فذكر عن أبي بكر عبد الرحمن ابن كيسان الأصم إنكار النفس جملة و قال لا أعرف إلا ما شاهدته بحواسي و قال جالينوس وأبو الهذيل محمد ابن الهذيل العلاف النفس عرض من الأعراض ثم اختلفا ف قال جالينوس هي مزاج مجتمع متولد من تركيب أخلاط الجسد و قال أبو الهذيل هي عرض كسائر أعراض الجسم و قال ت طائفة النفس هي النسيم الداخل الخارج بالتنفس فهي النفس و قالوا والروح عرض وهو الحياة فهو غير النفس وهذا قول الباقلاني ومن اتبعه من الأشعرية و قال ت طائفة النفس جوهر ليست جسماً ولا عرضاً ولا لها طول ولا عرض ولا عمق ولا هي في مكان ولا تتجزأ وأنها هي الفعالة المدبرة وهي الإنسان وهو قول بعض الأوائل وبه يقول معمر بن عمر والعطار أحد شيوخ المعتزلة وذهب سائر أهل الإسلام والملل المقرة بالميعاد إلى أن النفس جسم طويل عريض عميق ذات مكان عاقلة مميزة مصرفة للجسد‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ وبهذا نقول والنفس والروح اسمان مترادفان لمسمى واحد ومعناهما واحد‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ أما قول أبي بكر ابن كيسان فإنه يبطله النص وبرهان العقل أما النص فبقول الله تعالى ‏"‏ اللّهُ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلآئِكَةُ بَاسِطُواْ أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُواْ أَنفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ الآية ‏"‏ فصح أن النفس موجودة وأنها غير الجسد وأنها الخارجة عند الموت‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ وأما البرهان العقلي فإننا نرى المرء إذا أراد تصفية عقله وتصحيح رأيه أو فك مسألة عويصة عكس ذهنه وأفرد نفسه عن حواسها الجسدية وترك استعمال الجسد جملة وتبرأ منه حتى أنه لا يرى من بحضرته ولا يسمع ما ي قال أمامه فحينئذ يكون رأيه وفكره أصفى ما كان فصح أن الفكر والذكر ليسا للجسد المتخلى منه عند إرادتهما وأيضاً فالذي يراه النائم مما يخرج حقاً على وجهه وليس ذلك غلا إذا تخلت النفس عن الجسد فبقي الجسد كجسد الميت ونجده حينئذ يرى في الرؤيا ويسمع ويتكلم ويذكر وقد بطل عمل بصره الجسدي وعمل أذنيه الجسدي وعمل ذوقه الجسدي وكلام لسانه الجسدي فصح يقيناً أن العقل المبصر السامع المتكلم الحساس الذائق هو شيء غير الجسد فصح أنه المسمى نفساً إذ لا شيء غير ذلك وكذلك ما تتخيله نفس الأعمى والغائب عن الشيء مما قد رآه قبل ذلك فيتمثله ويراه في نفسه كما هو فصح يقيناً أن ههنا متمثلاً مدركاً غير الجسد إذ لا أثر للجسد ولا للحواس في شيء مما ذكرنا البتة ومنها أنك ترى المريد يريد بعض الأمور بنشاط فإذا اعترضه عارض ما كسل والجسم بحسبه كما كان لم يتغير منه شيء فعلمنا أن ههنا مريداً للأشياء غير الجسد ومنها أخلاق النفس من الحلم والصبر والحسد والعقل والطيش والخرق والنزق والعلم والبلادة وكل هذا ليس لشيء من أعضاء الجسد فإذ لا شك في ذلك فإنما هو كله للنفس المدبرة للجسد ومنها ما يرى من بعض المحصرين ممن قد ضعف جسده وفسدت بنيته وتراه حينئذ أحد ما كان ذهناً وأصح ما كان تميزاً وأفضل طبيعة وأبعد عن كل لغو وأنطق بكل حكمة وأصحهم نظراً وجسده حينئذ في غاية الفساد وبطلان القوى فصح أن المدرك للأمور المدبر للجسد الفعال المميز الحي هو شيء غير الجسد وهو الذي يسمى نفساً وصح أن الجسد مؤذ للنفس وأنها مذ حلت في الجسد كأنها وقعت في طين مخمر فأنساها شغلها بها كلما سلف لها وأيضاً فلو كان الفعل للجسد لكان فعله متمادياً وحياته متصلة في حال نومه وموته ونحن نرى الجسد حينئذ صحيحاً سالماً لم ينتقض منه شيء من أعضائه وقد بطلت أفعاله كلها جملة فصح أن الفعل والتمييز إنما كان لغير الجسد وهو النفس المفارقة وإن الفعال الذاكر قد باينه وتبرأ منه وأيضاً فإننا نرى أعضاء الجسد تذهب عضواً عضواً بالقطع والفساد والقوى باقية بحسبها والأعضاء قد ذهبت وفسدت ونجد الذهن والتدبير والعقل وقوي النفس باقية أوفر ما كان فصح ضرورة أن الفعال العالم الذاكر المدبر المريد هو غير الجسد كما ذكرنا وأن الجسد موات فبطل قول ابن كيسان والحمد لله رب العالمين وأما قول من قال أنها مزاج كما قال جالينوس فإن كل ما ذكرنا مما أبطلنا به قول أبي بكر بن كيسان فإنه يبطل أيضاً قول جالينوس وأيضاً فإن العناصر الأربعة التي منها تركب الجسد وهي التراب والماء والهواء والنار فإنها كلها موات بطبعها ومن الباطل الممتنع والمحال الذي لا يجوز البتة أن يجتمع موات وموات وموات وموات فيقوم منها حي وكذلك محال أن تجتمع بوارد فيقوم منها حار أو حوار فيجتمع منها بارد أو حي وحي وحي فيقوم منها موات فبطل أن تكون النفس مزاجاً وبالله تعالى التوفيق وأما قول من قال أنها عرض فقط وقول من قال إنما النفس النسيم الداخل والخارج من الهواء وأن الروح هو عرض وهو الحياة فإن كلى هذين القولين يبطلان بكل ما ذكرنا إبطال قول الأصم بن كيسان وأيضاً فإن أهل هذين القولين ينتمون إلى الإسلام والقرآن يبطل قولهم نصاً قال الله تعالى ‏"‏ الله يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها فيمسك التي قضى عليها الموت ويرسل الأخرى إلى أجل مسمى ‏"‏ فصح ضرورة أن الأنفس غير الأجساد وأن الأنفس هي المتوفاة في النوم والموت ثم ترد عند اليقظة وتمسك عند الموت وليس هذا التوفي للأجساد أصلاً وبيقين يدري كل ذي حس سليم أن العرض لا يمكن أن يتوفى فيفارق الجسم الحامل له ويبقى كذلك ثم يرد بعضه ويمسك بعضه هذا ما لا يكون ولا يجوز لأن العرض يبطل بمزايلته الحامل له وكذلك لا يمكن أن يظن ذو مسكة من عقل أن الهواء الخارج والداخل هو المتوفي عند النوم وكيف ذلك وهو باق في حال النوم كما كان في حال اليقظة ولا فرق وكذلك قوله تعالى ‏"‏ والملائكة باسطوا أيديهم أخرجوا أنفسكم اليوم تجزون عذاب الهون ‏"‏ فإنه لا يمكن أن يعذب العرض ولا الهواء وأيضاً فإن الله عز وجل يقول ‏"‏ وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى ‏"‏ الآية‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ فهذه آية ترفع الأشكال جملة وتبين أن النفس غير الجسد وإنما هي العاقلة المخاطبة المكلفة لأنه لا يشك ذو حس سليم في أن الأجساد حين أخذ الله عليها هذا العهد كانت مبددة في التراب والماء والهواء والنار ونص الآية يقتضي ما قلنا فكيف وفيها نص أن الأشهاد إنما وقع على النفوس وما أدري كيف تنشرح نفس مسلم بخلاف هذه النصوص وكذلك أخبار رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه رأى عند سماء الدنيا ليلة أسري به عن يمين آدم وعن يساره نسم بنيه فأهل السعادة عن يمينه وأهل الشقاوة عن يساره عليه السلام ومن الباطل أن تكون الأعراض باقية هنالك أو أن يكون النسيم هنالك وهو هواء مترد في الهواء‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ ولو كان ما قال ه أبو الهذيل والباقلاني ومن قلدهما حقاً لكان الإنسان يبدل في كل ساعة ألف ألف روح وأزيد من ثلاثة مائة ألف نفس لأن العرض عندهم لا يبقى وقتين بل يفنى ويتجدد عندهم أبداً فروح كل حي على قولهم في كل وقت غير روحه التي كانت قبل ذلك وهكذا تتبدل أرواح الناس عندهم بالخطاب وكذلك بيقين يشاهد كل أحد أن الهواء الداخل بالتنفس ثم يخرج هو غير الهواء الداخل بالتنفس الثاني فالإنسان يبدل على قول الأشعرية أنفساً كثيرة في كل وقت ونفسه الآن غير نفسه آنفاً وهذا حمق لا خفاء به فبطل قول الفريقين بنص القرآن والسنة والإجماع والمشاهدة والمعقول والحمد لله رب العالمين هذا مع تعريهما من الدليل جملة وأنها دعوى فقط وما كان هكذا فهو باطل وقد صرح الباقلاني عند ذكره لما يعترض في أرواح الشهداء وأرواح آل فرعون ف قال هذا يخرج على وجهين بأن يوضع عرض الحياة في أقل جزء من أجزاء الجسم و قال بعض من شاهدناه منهم توضع الحياة في عجب الذنب واحتج بالخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كل ابن آدم يأكله التراب الأعجب الذنب ومنه يركب الخلق يوم القيامة وفي رواية منه خلق وفيه يركب‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ وهذا تمويه من المحتج بهذا الخبر لأنه ليس في الحديث لا نص ولا دليل ولا إشارة يمكن أن يتأول على أن عجب الذنب يحيا وإنما في الحديث أن عجب الذنب لا يأكله التراب وأنه من خلق الجسد وفيه يركب فقط فظهر تمويه هذا القائل وضعفه والحمد لله رب العالمين قال الباقلاني وأما أن يخلق لتلك الحياة جسد آخر فلا‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ وهذا مذهب أصحاب التناسخ بلا مؤونة واحتج لذلك بالحديث المأثور أن نسمة المؤمن طير يعلف من ثمار الجنة ويأوي إلى قناديل تحت العرش وفي بعضها أنها في حواصل طير خضر‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ ولا حجة لهم في هذا الخبر لأن معنى قوله عليه السلام طائر يعلف هو على ظاهره لا على ظن أهل الجهل وإنما أخبر عليه السلام أن نسمة المؤمن طائر بمعنى أنها تطير في الجنة فقط لا أنها تنسخ في صور طير فإن قيل أن النسمة مؤنثة قلنا قد صح عن عربي فصيح أنه قال أتتك كتابي فاستخففت بها فقيل له أتؤنث الكتاب ف قال أوليس صحيفة وكذلك النسمة روح فتذكر لذلك وأما الزيادة التي فيها أنها في حواصل طير خضر فإنها صفة تلك القناديل التي تأوي إليها والحديثان معاً حديث واحد وخبر واحد‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ ولم يحصل من هذين الوجهين الفاسدين إلا على دعوى كاذبة بلا دليل يشبه الهزل أو على كفر مجرد في المصير إلى قول أصحاب التناسخ وعلى تحريف الحديث عن وجهه ونعوذ بالله من الخذلان فبطل هذان القولان والحمد لله رب العالمين وأما قول من قال أن النفس جوهر لا جسم من الأوائل ومعمر وأصحابه فإنهم موهوا بأشياء إقناعيات فوجب إيرادها ونقضها ليظهر البرهان على وجه الإنصاف للخصم وبالله تعالى التوفيق‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ قالوا لو كان النفس جسماً لكان بين تحريك المحرك رجله وبين إرادته تحريكها زمان على قدر حركة الجسم وثقله إذ النفس هي المحركة للجسد والمريدة لحركته قالوا فلو كان المحرك للرجل جسماً لكان لا يخلوا إما أن يكون حاصلاً في هذه الأعضاء وإما جائياً إليها فإن كان جائياً إليها احتاج إلى مدة ولا بد وإن كان حاصلاً فيها فنحن إذا قطعنا تلك العصبة التي بها تكون الحركة لم يبق منها في العضو الذي كان يتحرك شيء أصلاً فلو كان ذلك المحرك حاصلاً فيه لبقي منه شيء في ذلك العضو‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ وهذا لا معنى له لأن النفس لا تخلو من أحد ثلاثة أوجه لا رابع لها إما أن تكون مجللة لجميع الجسد من خارج كالثوب وإما أن تكون متخللة بجميعه من داخل كالماء في المدرة وإما أن تكون في مكان واحد من الجسد وهو القلب أو الدماغ وتكون قوها منبثة في جميع الجسد فأي هذه الوجوه كان فتحريكها لما يريد تحريكه من الجسد يكون مع إرادتها لذلك بلا زمان كإدراك البصر لما يلاقي في البعد بلا زمان وإذا قطعت العصبة لم ينقطع ما كان من جسم النفس مخللاً لذلك العضو إن كانت متخللة لجميع الجسد من داخل أو مجللة له من خارج بل يفارق العضو الذي يبطل حسه في الوقت وينفصل عنه بلا زمان وتكون مفارقتها لذلك العضو كمفارقة الهواء للإناء الذي ملئ ماء وأما أن كانت النفس ساكنة في موضع واحد من الجسد فلا يلزم على هذا القسم أن يسلب من العضو المقطوع بل يكون فعلها حينئذ في تحريكها الأعضاء كفعل حجر المغنطيس في الحديد وإن لم يلصق به بلا زمان فبطل هذا الإلزام الفاسد والحمد لله رب العالمين و قالوا لو كانت النفس جسماً لوجب أن نعلم ببعضها أو قال أبو محمد‏:‏ وهذا سؤال فاسد تقسيمه والجواب وبالله تعالى التوفيق أنها لا تعلم إلا بكلها أو ببعضها لأن كل بسيط غير مركب من طبائع شتى فهو طبيعة واحدة وما كان طبيعة واحدة فقوته في جميع أبعاضه وفي بعض أبعاضه سواء كالنار تحرق بكلها وببعضها ثم لا ندري ما وجه هذا الاعتراض علينا بهذا السؤال ولا ما وجه استدلالهم منه على أنها غير جسم ولو عكس عليهم في إبطال دعواهم أنها جوهر لا جسم لما كان بينهم وبين السائل لهم بذلك فرق أصلاً و قالوا أن من شأن الجسم أنك إذا زدت عليه جسماً آخر زاد في كميته وثقله قالوا فلو كانت النفس جسماً ثم داخلت الجسم الظاهر لوجب أن يكون الجسد حينئذ أثقل منه دون النفس ونحن نجد الجسد إذا فارقته النفس أثقل منه إذا كانت النفس فيه‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ وهذا شغب فاسد ومقدمة باطلة كاذبة لأنه ليس كل جسم كما ذكروا من أنه إذا أزيد عليه جسم آخر كان أثقل منه وحده وإنما يعرض هذا في الأجسام التي تطلب المركز والوسط فقط يعني التي في طبعها أن تتحرك سفلاً وترسب من المائيات والأرضيات وأما التي تتحرك بطبعها علواً فلا يعرض ذلك فيها بل الأمر بالضد وإذا أضيف جسم منها إلى جسم ثقيل خففه فإنك ترى أنك لو نفخ زقا من جلد ثور أو جلد بعير لو أمكن حتى يمتلئ هو آثم وزنته فإنك لا تجد على وزنه زيادة على مقدار وزنه لو كان فارغاً أصلاً وكذلك ما صمد من الزقاق ولو أنه ورقة سوسنة منفوخة ونحن نجسد الجسم العظيم الذي إذا أضفته إلى الجسم الثقيل خففه جداً فإنك لو رميت الزق غير المنفوخ في الماء الرسب فإذا نفخته ورميت به خف وعام ولم يرسب وكذلك يستعمله العائمون لأنه يرفعهم عن الماء ويمنعهم من الرسوب وهكذا النفس مع الجسد وهو باب واحد كلى لأن النفس جسم علوي فلكي أخف من الهواء وأطلب للعلو فهي تخفف الجسد إذا كانت فيه فبطل تمويههم والحمد لله رب العالمين و قالوا أيضاً لو كانت النفس جسماً لكانت ذات خاصية إما خفيفة وإما ثقيلة وإما حارة وإما باردة وإما لينة وإما خشنة‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ نعم هي خفيفة في غاية الخفة ذاكرة عاقلة مميزة حية هذه خواصها وحدودها التي بانت بها عن سائر الأجسام المركبات مع سائر أعراضها المحمولة فيها من الفضائل والرذائل وأما الحر واليبس والبرد والرطوبة واللين والخشونة فإنما هي من أعراض عناصر الأجرام التي دون الفلك خاصة ولكن هذه الأعراض المذكورة مؤثرة في النفس اللذة أو الألم فهي منفعلة لكل ما ذكرنا وهذا يثبت أنها جسم قالوا إنما من كان الأجسام فكيفياته محسوسة وما لم تكن كيفياته محسوسة فليس بجسم وكيفيات النفس إنما هي الفضائل والرذائل وهذان الجنسان من الكيفيات ليسا محسوسين فالنفس ليست جسماً‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ وهذا شغب فاسد ومقدمة كاذبة لأن قولهم أن ما لا تحس كيفياته فليس جسماً دعوى كاذبة لا برهان عليها أصلاً لا عقلي ولا حسي وما كان هكذا فهو قول ساقط مطروح لا يعجز عن مثله أحد ولكنا لا نقنع بهذا دون أن نبطل هذه الدعوى ببرهان حسي ضروري بعون الله تعالى وهو أن الفلك جسم وكيفياته غير محسوسة وأما اللون اللازوردي الظاهر فإنما يتولد فيما دونه من امتزاج بعض العناصر ووقع خط البصر عليها وبرهان ذلك تبدل ذلك اللون بحسب العوارض المولدة له فمرة تراه أبيض صافي البياض ومرة ترى فيه حمرة ظاهرة فصح أن قولهم دعوى مجردة كاذبة وبالله تعالى التوفيق وأيضاً فإن الجسم تتفاضل أنواعه في وقوع الحواس عليه فمنه ما يدرك لونه وطعمه وريحه ومنه ما لا يدرك منه إلا المجسة فقط كالهواء ومنها النار في عنصرها لا يقع عليها شيء من الحواس أصلاً بوجه من الوجوه وهي جسم عظيم المساحة محيط بالهواء كله فوجب من هذا أن الجسم كل ما زاد لطافة وصفاء لم تقع عليه الحواس وهذا حكم النفس وما دون النفس فأكثره محسوس للنفس لا حس البتة إلا للنفس ولا حساس إلا هي فهي حساسة لا محسوسة ولم يجب قط لا بعقل ولا بحس أن يكون كل حساس محسوساً فسقط قولهم جملة والحمد لله رب العالمين و قالوا أن كل جسم فإن لا يخلو من أن يقع تحت جميع الحواس أو تحت بعضها والنفس لا تقع تحت كل الحواس ولا قال أبو محمد‏:‏ وهذه مقدمة فاسدة كما ذكرنا آنفاً لأن ما عدم اللون من الأجسام لم يدرك بالبر كالهواء وكالنار في عنصرها وإن ما عدم الرائحة لم يدرك بالشم كالهواء والنار والحصى والزجاج وغير ذلك وما عدم الطعم لم يدرك بالذوق كالهواء والنار والحصا والزجاج وما عدم المجسة لم يدرك باللمس كالهواء الساكن والنفس عادمة اللون والطعم والمجسة والرائحة فلا تدرك بشيء من الحواس بل هي المدركة لكل هذه المدركات وهي الحساسة لكل هذه المحسوسات فهي حساسة لا محسوسة وإنما تعرف بآثارها وبراهين عقلية وسائر الأجسام والأعراض محسوسة لا حساسة ولا بد من حساس لهذه المحسوسات ولا حساس لها غير النفس وهي التي تعلم نفسها وغيرها وهي القابلة لأعراضها التي تتعاقب عليها من الفضائل والزرئل المعلومة بالعقل كقبول سائر الأجرام لما يتعاقب عليها من الأعراض بالعقل والنفس هي المتحركة باختيارها المحركة لسائر الأجسام هي مؤثرة فيها تألم وتلتذ وتفرح وتحزن وتغضب وترضى وتعلم وتجهل وتحب وتكره وتذكر وتنسي وتنتقل وتحل فبطل قول هؤلاء أن كل جسم فلا بد من أن يقع تحت الحواس أو تحت بعضها لأنها دعوى لا دليل عليها وكل دعوى عريت من دليل فهي باطلة و قالوا كل جسم فإنه لا محالة يلزمه الطول والعرض والعمق والسطح والشكل والكم والكيف فإن كانت النفس جسماً فلا بد أن تكون هذه الكيفيات فيها أو يكون بعضها فيها فأي الوجهين كان فهي إذا محاط بها وهي مدركة بالحواس أو من بعضها ولا نرى الحواس تدركها فليست جسماً‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ هذا كله صحيح وقضايا صادقة حاشا قضية واحدة ليست فيها وهي قولهم وهي مدركة من الحواس أو من بعضها فهذا هو الباطل المقحم بلا دليل وسائر ذلك صحيح وهذه القضية الفاسدة دعوى كاذبة وقد تقدم أيضاً إفسادنا لها آنفاً مع تعريها عن دليل يصححها ونعم فالنفس جسم طويل عريض عميق ذات سطح وخط وشكل ومساحة وكيفية يحاط بها ذات مكان وزمان لأن هذه خواص الجسم ولا بد والعجب من قلة حياء من أقحم مع هذا فهي إذاً مدركة بالحواس وهذا عين الباطل لأن حاسة البصر وحاسة السمع وحاسة الذوق وحاسة الشم وحاسة اللمس لا يقع شيء منها لا على الطول ولا على العرض ولا على العمق ولا على السطح ولا على الشكل ولا على المساحة ولا على الكيفية ولا على الخط وإنما تقع حاسة البصر على اللون فقط فإن كان في شيء مما ذكرنا لون وقعت عليه حاسة البصر وعلمت ذلك الملون بتوسط اللون وإلا فلا وإنما تقع حاسة السمع على الصوت فإن حدث في شيء مما ذكرنا صوت وقعت عليه حاسة السمع حينئذ وعلمت ذلك المصوت بتوسطه وإلا فلا وإنما تقع حاسة الشم على الرائحة فإن كان في شيء مما ذكرنا رائحة وقعت عليها حينئذ حاسة الشم وعلمت حامل الرائحة بتوسط الرائحة وإلا فلا وإن كان لشيء مما ذكرنا طعم وقعت عليه حينئذ حاسة الذوق وعلمت المذوق بتوسط الطعم وإلا فلا وإن كل في شيء مما ذكرنا مجسة وقعت عليه حاسة اللمس حينئذ وعلمت الملموس بتوسط المجسة وإلا فلا و قالوا أن من خاصة الجسم أن يقبل التجزي وإذا جزئ منه الجزء الصغير والكبير ولم يكن الجزء الصغير كالجزء الكبير فلا يخلوا حينئذ من أحد أمرين إما أن يكون كل جزء منها نفساً فيلزم من ذلك أن لا تكون النفس نفساً واحدة بل تكون حينئذ أنفساً كثيرة مركبة من أنفس وإما أن لا يكون كل جزء منها نفساً فيلزم أن لا تكون كلها نفساً‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ أما قولهم أن خاصة الجسم احتمال التجزي فهو صدق والنفس محتملة للتجزي لأنها جسم من الأجسام وأما قولهم أن الجزء الصغير ليس كالكبير فإن كانوا يريدون في المساحة فنعم وأما في غير ذلك فلا وأما قولهم أنها إن تجزأت فإما أن يكون كل جزء منها نفساً وإلزامهم من ذلك أنها مركبة من أنفس فإن القول الصحيح في هذا أن النفس محتملة للتجزي بالقوة وإن كان التجزي بانقسامها غير موجود بالفعل وهكذا القول في الفلك والكواكب كل ذلك محتمل للتجزي بالقوة وليس التجزي موجوداً في شيء منها بالفعل وأما قولهم أنها مركبة من أنفس فشغب فاسد لأننا قد قدمنا في غير موضع أن المعاني المختلفة والمسميات المتغايرة يجب أن يوقع على كل واحد منها اسم يبين به عن غيره وإلا فقد وقع الأشكال وبطل التفاهم وصرنا إلى قول السوفسطائية المبطلة لجميع الحقائق ووجدنا العالم ينقسم قسمين أحدهما مؤلف من طبائع مختلفة فاصطلحنا على أن سمينا هذا القسم مركباً والثاني مؤلف من طبيعة واحدة فاصطلحنا على أن سمينا هذا القسم بسيطاً ليقع التفاهم في الفرق بين هذين القسمين ووجدنا القسم الأول لا يقع على كل جزء من أجزائه اسم كله كالإنسان الجزئي فإنه متألف من أعضاء لا يسمى شيء منها إنساناً فإذا تألف سمي المتألف منها إنساناً ووجدنا القسم الثاني يقع على كل جزء من أجزائه اسم كله كالأرض والماء والهواء وكالنار وكالفلك فهو فلك وكل جزء من النفس نفس وليس ذلك موجباً أن تكون الأرض مؤلفة من أرضين ولا أن يكون الهواء مؤلفاً من أهوية ولا أن يكون الفلك مؤلفاً من أفلاك ولا أن تكون النفس مؤلفة من أنفس وحتى لو قيل ذلك بمعنى أن كل بعض منها يسمى نفساً وكل بعض من الفلك يسمى فلكاً فما كان في ذلك ما يعترض به على أنها جسم كسائر الأجسام التي ذكرنا وبالله تعالى التوفيق و قالوا أيضاً طبع ذات الجسم أن يكون غير متحرك والنفس متحركة فإن كانت هذه الحركة التي فيها من قبل الباري تعالى فقد وجدنا لها حركات فاسدة فكيف يضاف ذلك إلى الباري تعالى‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ وهذا الكلام في غاية الفساد والهجنة ولقد كان ينبغي لمن ينتسب إلى العلم إن كان يدري مقدار سقوط هذه الاعتراضات وسخفها أن يصون نفسه عن الاعتراض بها لرذالتها وإن كان لا يدري رذالتها فكان الأولى به أن يتعلم قبل أن يتكلم فأما قوله أن طبع ذات الجسم أن تكون غير متحركة فقول ظاهر الكذب والمجاهرة لأن للأفلاك والكواكب أجساماً وطبعها الحركة الدايمة المتصلة أبداً إلى أن يحيلها خالقها عن ذلك يوم القيامة وأن للعناصر دون الفلك أجساماً وطبعها الحركة إلى مقرها والسكون في مقرها وأما النفس فلأنها حية كان طبعها السكون الاختياري والحركة الاختيارية حيناً وحيناً هذا كله لا يجهله أحد به ذوق وأما قولهم أن لها حركات ردية فكيف تضاف إلى الباري تعالى فإنما كان بعض حركات النفس ردياً بمخالفة النفس أمر باريها في تلك الحركات وإنما أضيفت إلى الباري تعالى لأنه خلقها فقط على قولنا أو لأنه تعالى خلق تلك القوى التي بها كانت تلك الحركات فسقط إلزامهم الفاسد والحمد لله رب العالمين و قالوا أيضاً أن الأجسام في طبعها الاستحالة والتغير واحتمال الإنقسام أبداً بلا غاية ليس شيء منها إلا هكذا أبداً فهي محتاجة إلى من يربطها ويشدها ويحفظها ويكون به تماسكها قالوا والفاعل لذلك النفس فلو كانت النفس جسماً لكانت محتاجة إلى من يربطها ويحلها فيلزم من ذلك أن تحتاج إلى نفس أخرى والأخرى إلى أخرى والأخرى كذلك إلى ما لا نهاية له وما لا نهاية له باطل‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ هذا أفسد من كل قول سبق من تشغيباتهم لأن مقدمته مغشوشة فاسدة كاذبة أما قولهم أن الأجسام في طبعها الاستحالة والتغير على الإطلاق كذب لأن الفلك جسم لا يقبل الاستحالة وإنما تجب الاستحالة والتغيير في الأجسام المركبة من طبائع شتى بخلعها كيفياتها ولباسها كيفيات أخرى وبانحلالها إلى عناصرها هكذا مدة ما أيضاً ثم تبقى غير منحلة ولا مستحيلة وأما النفس فإنها تقبل الاستحالة والتغيير في أعراضها فيتغير ويستحيل من علم إلى جهل ومن جهل إلى علم ومن حرص إلى قناعة ومن بخل إلى جود ومن رحمة إلى قسوة ومن لذة إلى ألم هذا كله موجود محسوس وأما أن تستحيل في ذاتها فتصير ليست نفساً فلا وهذا الكوكب هو جسم ولا يصير غير كوكب والفلك لا يصير غير فلك وأما قوله أن الأجسام محتاجة إلى ما يشدها ويربطها ويمسكها فصحيح وأما قوله أن النفس هي الفاعلة لذلك فكذب ودعوى بلا دليل عليها إقناعي ولا برهاني بل هو تمويه مدلس ليجوز باطله على أهل الغفلة وهكذا قول الدهرية وليس كذلك بل النفس من جملة الأجسام المحتاجة إلى ما يمسكها ويشدها ويقيمها وحاجتها إلى ذلك كحاجة سائر الأجسام التي في العالم ولا فرق والفاعل لكل ذلك في النفس وفي سائر الأجسام والممسك لها والحافظ لجميعها والمحيل لما استحال منها فهو المبدى للنفس ولكل ما في العالم من جسم أو عرض والمتمم لكل ذلك هو الخالق الباري المصور عز وجل فبعض أمسكها بطبائعها التي خلقها فيها وصرفها فضبطها لما هي فيه وبعض أمسكها برباطات ظاهرة كالعصب والعروق والجلود لا فاعل لشيء من ذلك دون الله تعالى وقد قدمنا البراهين على كل ذلك في صدر كتابنا هذا فأغني عن ترداده والحمد لله رب العالمين و قالوا أيضاً كل جسم فهو إما ذو نفس وإما لا ذو نفس فإن كانت النفس جسماً فهي متنفسة أي ذات نفس وإما لا متنفسة أي لا ذات نفس فإن كانت لا متنفسة فهذا خطأ لأنه يجب من ذلك أن تكون النفس لا نفساً وإن كان متنفسة أي ذات نفس فهي محتاجة إلى نفس وتلك النفس إلى أخرى والأخرى إلى أخرى وهذا يوجب ما لا نهاية له وما لا نهاية له باطل‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ هذه مقدمة صحيحة ركبوا عليها نتيجة فاسدة ليست منتجة على تلك المقدمة وأما قولهم أن كل جسم فهو إما ذو نفس وإما لا ذو نفس فصحيح وأما قولهم أن النفس إن كانت غير متنفسة وجب من ذلك أن تكون النفس لا نفساً فشغب فاسد بارد لا يلزم لأن معنى القول بأن الجسم ذو نفس إنما هو أن بعض الأجسام أضيفت غليه نفس حية حساسة متحركة بإرادة مدبرة لذلك الجسم الذي استضافت إليه ومعنى القول بأن هذا الجسم غير ذي نفس إنما هو أنه لم يستضف إليه نفس فالنفس الحية هي المتحركة المدبرة وهي غير محتاجة إلى جسم مدبر لها ولا محرك لها فلم يجب أن يحتاج إلى نفس ولا أن تكون ليست نفساً ولا فرق بينهم في قولهم هذا وبين من قال أن الجسم يحتاج إلى جسم كما قالوا أنه يجب أن تحتاج النفس إلى نفس أو قال يجب أن يكون الجسم لا جسماً كما قالوا يجب أن تكون النفس لا نفساً وهذا كله هوس وجهل والحمد لله رب العالمين و قالوا لو كانت النفس جسماً لكان الجسم نفساً‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ وهذا من الجهل المفرط المظلم ولو كان لقائل هذا الجنون أقل علم بحدود الكلام لم يأت بهذه الغثاثة لأن الموجبة الكلية لا تنعكس البتة انعكاساً مطرداً إلى موجبة جزئية لا كلية وكلامهم هذا بمنزلة من قال لما كان الإنسان جسماً وجب أن يكون الجسم إنساناً ولما كان الكلب جسماً وجب أن يكون الجسم كلباً وهذا غاية الحمق والقحة لكن صواب القول في هذا أن يقول لما كانت النفس جسماً كان بعض الأجسام نفساً ولما كان الكلب جسماً وجب أن يكون بعض الأجسام كلباً وهذا هو العكس الصحيح المطرد اطراداً صحيحاً أبداً وبالله تعالى التوفيق و قالوا أيضاً إن كانت النفس جسماً فهي بعض الأجسام وإذا كانت كذلك فكلية الأجسام أعظم مساحة منها فيجب أن تكون أشرف منها‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ من عدم الحياء والعقل لم يبال بما نطق به لسانه وهذه قضية في غاية الحمق لأنها توجب أن الشرف إنما هو بعظم الأجسام وكثرة المساحة ولو كان كذلك لكانت القضية والبلية وكان الحمار والبغل وكدس العذرة أشرف من الإنسان المنباء والفيلسوف لأن كل ذلك أعظم مساحة منه ولكانت الغرلة أشرف من ناظر العين والآلية أشرف من القلب والكبد والدماغ والصخر أشرف من اللؤلؤة وأف لكل علم أدى إلى مثل هذا نعم فإن كثيراً من الأجسام أعظم مساحة من النفس وليس ذلك موجباً أنها اشرف منها مع أن النفس الرذلة المضربة عما أوجبه التمييز وعن طاعة ربها إلى الكفر به فكل شيء في العالم أشرف منها ونعوذ بالله من الخذلان و قالوا إن كانت النفس جسماً آخر مع الجسم فالجسم نفس وشيء آخر وإذا كان كذلك فالجسم أتم وإذا كان أتم فهو أشرف‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ وهذا جنون مردد لأنه ليس بكثرة العدد يجب الفضل والشرف ولا بعموم اللفظ يجب الشرف بل قد يكون الأقل والأخص أشرف ولو كان ما قال وه لوجب أن تكون الأخلاق جملة شرف من الفضائل خاصة لأن الأخلاق فضائل وشيء آخر فهي أتم فهي على حملهم السخيف أشرف وهذا ما لا يقوله ذو عقل وهم يقرون أن النفس جوهر والجوهر نفس وجسم فالجوهر أشرف من النفس لأنه نفس وشيء آخر وقد قالوا أن الحي يقع تحت النامي فيلزمهم أن النامى أشرف من الحي لأنه حي وشيء آخر وهذا تخليط وحماقة ونعوذ بالله من الوسواس و قالوا أيضاً كل جسم يتغذى والنفس لا تتغذى فهي غير جسم‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ إن كان هؤلاء السخفاء إذ اشتغلوا بهذه الحماقات كانوا سكارى بل سكر الجهل والسخف أعظم من سكر الخمر لأن سكر الخمر سريع الإفاقة سكر الجهل والسخف بطيء الإفاقة أتراهم إذ قالوا كل جسم فهو متغذ ألم يروا الماء والأرض والهواء والكواكب والفلك وإن كل هذه أجسام عظام لا تتغذى وإنما يتغذى من الأجسام النوامي فقط وهي أجساد الحيوان السكان في الماء والأرض والشجر والنبات فقط فإذا كان عند هؤلاء النوكى ما لا يتغذى ليس جسماً فالأرض والحجارة والكواكب والفلك والملائكة ليس كل ذلك جسماً وكفى بهذا جنوناً وخطأ ونحمد الله على السلامة و قالوا لو كانت النفس جسماً لكانت لها حركة لأن لكل جسم حركة ونحن لا نرى للنفس حركة فبطل أن تكون جسماً‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ هذه دعوى كاذبة وقد تناقضوا أيضاً فيها لأنها قد قالوا قبل هذا بنحو ورقة في بعض حججهم أن الأجسام غير متحركة والنفس متحركة وهنا قلبوا الأمر فظهر جهلهم وضعف عقولهم وأما قولهم لا نرى لها حركة فمخرقة وليس كل ما لا يرى يجب أن ينكر إذا قام على صحته دليل ويلزمهم إذ أبطلوا حركة النفس لأنهم لا يرونها أن يبطلوا النفس جملة لأنهم أيضاً لا يرونها ولا يسمونها ولا يلمسونها ولا يذوقونها وحركة النفس معلومة بالبرهان وهو أن الحركة قسمان حركة اضطرار وحركة اختيار فحركة الاضطرار هي حركة كل جسم غير النفس هذا ما لا يشك فيه فبقيت حركة الاختيار وهي موجودة يقيناً وليس في العالم شيء متحرك بها حاشا النفس فقط فصح أن النفس هي المتحركة بها فصح ضرورة أن للنفس حركة اختيارية معلومة بلا شك وإذ لا شك في أن كل متحرك فهو جسم وقد صح أن النفس متحركة فالنفس جسم فهذا هو البرهان الضروري التام الصحيح لا تلك الوساوس والأهذار ونحمد الله على نعمه عز وجل و قالوا لو كانت النفس جسماً لوجب أن يكون اتصالها بالجسم إما على سبيل المجاورة وإما على سبيل المداخلة وهي الممازجة‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ فبعد هذا ماذا ونعم فإن النفس متصلة بالجسم على سبيل المجاورة ولا يجوز سوى ذلك إذ لا يمكن أن يكون اتصال الجسمين إلا بالمجاورة وأما اتصال المداخلة فإنما هي بين العرض والعرض والجسم والعرض على ما بينا قبل و قالوا أيضاً إن كانت النفس جسماً فكيف يعرف الجسم بمماسة أو بغير مماسة‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ لأجسام كلها حاشا النفس موات لا علم لها ولا حس ولا تعلم شيئاً وإنما العلم والحس للنفس فقط فهي تعلم الأجسام والأعراض وخالق الأجسام والأعراض الذي هو خلقها أيضاً بما فيها من صفة الفهم وطبيعة التمييز وقوة العلم التي وضعها فيها خالقها عز وجل وسؤالهم بارد و قالوا أيضاً أن كل جسم بدأ في نشوة وغاية ينتهي إليها وأجود ما يكون الجسم إذا انتهى إلى غايته فإذا أخذ في النقص ضعف وليست الأنفس كذلك لأننا نرى أنفس المعمرين اكثر ضياء وأنفذ فعلاً ونجد أبدانهم أضعف من أبدان الأحداث فلو كانت النفس جسماً لنقص فعلها بنقصان البدن فإذا كان هذا كما ذكرنا فليست النفس جسماً‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ هذه مقدمة فاسدة الترتيب أما قولهم أن الجسم أجود ما يكون إذ انتهى إلى غايته فخطأ إذا قيل على العموم وإنما ذلك في النوامي فقط وفي الأشياء التي تستحيل استحالة ذبولية فقط كالشجر وأصناف أجساد الحيوان والنبات وأما الجبال والحجارة والأرض والبحار والهواء والماء والأفلاك والكواكب فليس لها غاية إذا بلغتها أخذت في الانحطاط وإنما يستحيل بعض ما يستحيل من ذلك على سبيل التفتت كحجر كسرته فانكسر ولو ترك لبقي ولم يذبل ذبول الشجر والنبات وأجسام الحيوان وكذلك النفس لا تستحيل استحالة ذبول ولا استحالة تفتت وإنما تستحيل أعراضها كما ذكرنا فقط ولا نماء له وكذلك الملائكة والفلك والكواكب والعناصر الأربعة لا نماء لها وكل ذلك باق على هيئته التي خلقه الله تعالى عليها إذ خلق كل ذلك والنفس كذلك منتقلة من عالم الابتداء إلى عالم الانتهاء إلى عالم البرزخ إلى عالم الحساب إلى عالم الجزاء فتخلد فيه أبداً بلا نهاية وهي إذا تخلصت من رطوبات الجسد وكدره كانت أصفي نظراً وأصح علماً كما كانت قبل حلولها في الجسد نسأل الله خير ذلك المنقلب بمنه آمين‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ هذا ما موهوا به من كل نطيحة ومتردية قد تقصيناه لهم وبينا أن كله فساد وحماقات وتقصيناه بالبراهين الضرورية والحمد لله رب العالمين‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ فإذا بطل كل ما شغب به من يقول أن النفس ليست جسماً وسقط هذا القول لتعريه عن الأدلة جملة فنحن إن شاء الله تعالى نوضح بعون الله عز وجل وقوته البراهين الضرورية على أنها جسم وبالله تعالى نتأيد وذلك بعد أن نبين بتأييد الله عز وجل شغبين يمكن أن يعترض بهما إن قال قائل أتنمو النفس فإن قلتم لا قلنا نحن نجدها تنشأ من صغر إلى كبر وترتبط بالجسد بالغذاء وإذا انقطع الغذاء انحلت عن الجسد ونجدها تسوء أخلاقها ويقل صبرها بعدم الغذاء فإذا تغذت اعتدلت أخلاقها وصلحت‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ لا تتغذى ولا تنمو أما عدم غذائها فالبرهان القائم أنها ليست مركبة من الطبائع الأربع وأنها بخلاف الجسد هذا هو البرهان على أنها لا تتغذى وهو أن ما تركب من العناصر الأربعة فلا بد له من الغذاء ليستخلف ذلك الجسد أو تلك الشجرة أو ذلك النبات من رطوبات ذلك الغذاء أو أرضياته مثل ما تحلل من رطوباته بالهواء والحر وليست هذه صفة النفس إذ لو كانت لها هذه الصفة لكانت من الجسد أو مثله ولو كانت من الجسد أو مثله لكانت مواتاً كالجسد غير حساسة فإذ قد بطل أن تكون مركبة من طبائع العناصر بطل أن تكون متغذية نامية وأما ارتباطها بالجسد من أجل الغذاء فهو أمر لا يعرف كيفيته إلا خالقها عز وجل الذي هو مدبرها إلا أنه معلوم أنه كذلك فقط وهو كطحن المعدة للغذاء لا يدري كيف هو وغير ذلك مما يوجد الله عز وجل يعلمه ومن البرهان على أن النفس لا تتغذى ولا تنمو إن البرهان قد قام على أنها كانت قبل تركيب الجسد على آباد الدهور وأنها باقية بعد انحلاله وليس هنالك في ذينك العالمين غذاء يولد نماءً أصلاً وأما ما ظنوه من نشأتها من صغر إلى كبر فخطأ وإنما هو عودة من النفس إلى ذكرها الذي سقط عنها بأول ارتباطها بالجسد فإن سأل سائل أتمون النفس قلنا نعم لأن الله تعالى نص على ذلك ف قال ‏"‏ كل نفس ذائقة الموت ‏"‏ وهذا الموت إنما هو فراقها للجسد فقط برهان ذلك قول الله تعالى ‏"‏ أخرجوا أنفسكم اليوم تجزون عذاب الهون ‏"‏ وقوله تعالى ‏"‏ كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتاً فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم ‏"‏ فصح أن الحياة المذكورة إنما هي ضم الجسد إلى النفس وهو نفخ الروح فيه وأن الموت المذكور إنما هو التفريق بين الجسد والنفس فقط وليس موت النفس مما يظنه أهل الجهل وأهل الإلحاد من إنها تعدم جملة بل هي موجودة قائمة كما كانت قبل الموت وقبل الحياة الأولى ولا أنها يذهب حسها وعلمها بل حسها بعد الموت أصح ما كان وعلمها أتم ما كان وحياتها التي هي الحس والحركة الإرادية باقية بحسبها أكمل ما كانت قط قال عز وجل ‏"‏ وإن الدار الآخرة لهي الحيوان لو كانوا يعلمون ‏"‏ وهي راجعة إلى البرزخ حيث رآها رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة أسرى به عن الميمنة من آدم عليه السلام ومشئمته إلى أن تحيا ثانية بالجمع بينها وبين جسدها يوم القيامة وأما أنفس الجن وسائر الحيوان فحيث شاء الله تعالى ولا علم لنا إلا ما علمنا ولا يحل لأحد أن يقول بغير علم وبالله تعالى التوفيق‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ فلنذكر الآن البراهين الضرورية على أن النفس جسم من الأجسام فمن الدليل على أن النفس جسم من الأجسام انقسامها على الأشخاص فنفس زيد غير نفس عمرو فلو كانت النفس واحدة لا تنقسم على ما يزعم الجاهلون القائلون أنها جوهر لا جسم لوجب ضرورة أن تكون نفس المحب هي نفس المبغض وهي نفس المحبوب وأن تكون نفس الفاسق الجاهل هي نفس الفاضل الحكيم العالم ولكانت نفس الخائف هي نفس المخوف منه ونفس القاتل هي نفس المقتول وهذا حمق لا خفاء به فصح أنها نفوس كثيرة متغايرة الأماكن مختلفة الصفات حاملة لأعراضها فصح أنها جسم بيقين لا شك فيه وبرهان آخر هو أن العلم لا خلاف في أنه من صفات النفس وخواصها لا مدخل للجسد فيه أصلاً ولا حظ فلو كانت النفس جوهراً واحداً لا تتجزئ نفوساً لوجب ضرورة أن يكون علم كل أحد مستوياً لا تفاضل فيه لأن النفس على قولهم واحدة وهي العالمة فكان يجب أن يكون كلما علمه زيد يعلمه عمرو لأنه نفسهما واحدة ندهم غير منقسمة ولا متجزئة فكان يلزم ولا بد أن يعلم جميع أهل الأرض ما يعلمه كل عالم في الدنيا لأن نفسهم واحدة لا تنقسم وهي العالمة وهذا ما لا انفكاك منه البتة فقد صح بما ذكرنا ضرورة أن نفس كل أحد غير نفس غيره وأن أنفس الناس أشخاص متغايرة تحت نوع نفس الإنسان وإن نفس الإنسان الكلية نوع تحت جنس النفس الكلية التي يقع تحتها نفس جميع الحيوان وإذ هي أشخاص متغايرة ذات أمكنة متغايرة حاملة لصفات متغايرة فهي أجسام ولا يمكن غير ذلك البتة وبالله تعالى التوفيق وأيضاً فإن العالم كله محدود معروف أجسام وأعراض ولا مزيد فمن ادعى أن ههنا جوهراً ليس جسماً ولا عرضاً فقد ادعى ما لا دليل عليه البتة ولا يتشكل في العقل ولا يمكن توهمه وما كان هكذا فهو باطل مقطوع على بطلانه وبالله تعالى التوفيق وأيضاً فإن النفس لا تخلوا من أن تكون خارج الفلك أو داخل الفلك فإن كانت خارج الفلك فهذا باطل إذ قام البرهان على تناهي جرم العالم فليس وراء النهاية شيء ولو كان وراءها شيء لم تكن نهاية فوجب ضرورة أنه ليس خارج الفلك الذي هو نهاية العالم شيء لا خلاء ولا ملاء وإن كانت في الفلك فهي ضرورة أما ذات مكان وأما محمولة في ذي مكان لأنه ليس في العالم شيء غير هذين أصلاً ومن ادعى أن في العالم شيئاً ثالثاً فقد ادعى المحال والباطل وما لا دليل له عليه وهذا لا يعجز عنه أحد وما كان هكذا باطل بيقين وقد قام الدليل على أن النفس ليست عرضا لأنها عالمة حساسة والعرض ليس عالماً ولا حساساً وصح أنها حاملة لصفاتها لا محمولة فإذ هي حاملة متمكنة فهي جسم لا شك فيه إذ ليس إلا جسم حامل أو عرض محمول وقد بطل أن تكون عرضاً محمولاً فهي جسم حامل وبالله تعالى التوفيق وأيضاً فلا تخلو النفس من أن تكون واقعة تحت جنس أولاً فإن كانت لا واقعة تحت جنس فهي خارجة عن المقولات وليس في العالم شيء خارج عنها ولا في الوجود شيء خارج عنها إلا خالقها وحده لا شريك له وهم لا يقولون بهذا بل يوقعونها تحت جنس الجوهر فإذ هي واقعة تحت جنس الجوهر فإنا نسألهم عن الجوهر الجامع للنفس وغيرها إله طبيعة أم لا فإن قالوا لا ندري ما الطبيعة قلنا لهم إله صفة محمولة فيه لا يوجد دونها أم لا فلا بد من نعم وهذا هو معنى الطبيعة وإن قالوا بل له طبيعة وجب ضرورة أن يعطى كل ما تحته طبيعة لأن الأعلى يعطي لكل ما تحته اسمه وحدوده عطاء صحيحاً والنفس تحت الجوهر فالنفس ذات طبيعة بلا شك وإذ صح أن لها طبيعة فكل ما له طبيعة فقد حصرته الطبيعة وما حصرته الطبيعة فهو ذو نهاية محدودة وكل ذي نهاية فهو إما حامل وإما محمول والنفس بلا شك حاملة ولأعراضها من الأضداد كالعلم والجهل والذكاء والبلادة والنجدة والجبن والعدل والجور والقسوة والرحمة وغير ذلك واقعاً تحت جنس فهو نوع من أنواع ذلك الجنس وكل نوع فهو مركب من جنسه الأعلى العام له من أنواعه ومركب أيضاً مع ذلك من فصله الخاص به المميز له من سائر الأنواع الواقعة معه تحت جنس واحد فإنه موضوع وهو جنسه القابل لصورته وصورة غيره وله محمول وهو صورته التي خصته دون غيره فهو ذو موضوع ومحمول فهو مركب والنفس نوع للجوهر فهي مركبة من موضوع ومحمول وهي قائمة بنفسها فهي جسم ولا بد‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ وهذه براهين ضرورية حسية عقلية لا محيد عنها وبالله تعالى التوفيق وهذا قول جماعة من الأوائل ولم يقل ارسطاطاليس أن النفس ليست جسماً على ما ظنه أهل الجهل وإنما نفى أن تكون جسماً كدراً وهو الذي لا يليق بكل ذي علم سواه ثم لو صح أنه قال ها لكانت وهلة ودعوى لا برهان عليها وخطأ لا يجب اتباعه عليه وهو يقول في مواضع من كتبه اختلف أفلاطون والحق كلاهما إلينا حبيب غير أن الحق أحب إلينا وإذا جاز أن يختلف أفلاطون والحق فغير نكير ولا بديع أن يختلف ارسطاطاليس والحق وما عصم إنسان من الخطأ فكيف وما صح قط أنه قال ه‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ إنما قال أن النفس جوهر لا جسم من ذهب إلى أنه هي الخالقة لما دون الله تعالى على ما ذهب إليه بعض الصائبين ومن كني بها عن الله تعالى‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ وكلا القولين سخف وباطل لأن النفس والعقل لفظتان من لغة العرب موضوعتان فيها لمعنيين مختلفين فأحالتهما عن موضوعهما في اللغة سفسطة وجهل وقلة حياء وتلبيس وتدليس‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ وأما من ذهب إلى أن النفس ليست جسماً ممن ينتمي إلى الإسلام بزعمه فقول يبطل بالقرآن والسنة وإجماع الأمة فأما القرآن فإن الله عز وجل قال ‏"‏ هنالك تبلو كل نفس ما أسلفت ‏"‏ و قال تعالى ‏"‏ اليوم تجزى كل نفس بما كسبت لا ظلم اليوم ‏"‏ و قال تعالى ‏"‏ كل امرئ بما كسب رهين ‏"‏ فصح أن النفس هي الفعالة الكاسبة المجزية المخطئة و قال تعالى ‏"‏ إن النفس لأمارة بالسوء ‏"‏ و قال تعالى ‏"‏ ويوم تقوم الساعة ادخلوا آل فرعون أشد العذاب ‏"‏ و قال تعالى ‏"‏ وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُواْ بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ ‏"‏ فصح أن الأنفس منها ما يعرض على النار قبل يوم القيامة فيعذب ومنها ما يرزق وينعم فرحاً ويكون مسروراً قبل يوم القيامة ولا شك أن أجساد آل فرعون وأجساد المقتولين في سبيل الله قد تقطعت أوصالها وأكلتها السباع والطير وحيوان الماء فصح أن الأنفس منقولة من مكان إلى مكان ولا شك في أن العرض لا يلقي العذاب ولا يحس فليست عرضاً وصح أنها تنتقل في الأماكن قائمة بنفسها وهذه صفة الجسم لا صفة الجوهر عند القائل به فصح ضرورة أنها جسم وأما من السنن فقول رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أرواح الشهداء في حواصل طير خضر في الجنة وقوله صلى الله عليه وسلم أنه رأي نسم بني آدم عند سماء الدنيا عن يمين آدم ويساره فصح أن الأنفس مرئية في أماكنها وقوله عليه السلام أن نفس المؤمن إذا قبضت عرج بها إلى السماء وفعل بها كذا ونفس الكافر إذا قبضت فعل بها كذا فصح أنها معذبة ومنعمة ومنقولة في الأماكن وهذه صفة الأجسام ضرورة وأما عن الإجماع فلا خلاف بين أحد من أهل الإسلام في أن نفس العباد منقولة بعد خروجها عن الأجساد إلى نعيم أو إلى صنوف ضيق وعذاب وهذه صفة الأجسام ومن خالف هذا فزعم أن الأنفس تعدم أو أنها تنتقل إلى أجسام أخر فهو كافر مشرك حلال الدم والمال بخرقه الإجماع ومخالفته القرآن والسنن ونعوذ بالله من الخذلان‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ وقد ذكرنا في باب عذاب القبر أن الروح والنفس شيء واحد ومعني قول الله تعالى ‏"‏ ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي ‏"‏ إنما هو لأن الجسد مخلوق من تراب ثم من نطفة ثم من علقة ثم من مضغة ثم عظماً ثم لحماً ثم أمشاجاً وليس الروح كذلك وإنما قال الله تعالى أمر إله بالكون كن فكان فصح أن النفس والروح والنسمة أسماء مترادفة لمعنى واحد وقد يقع الروح أيضاً على غير هذا فجبريل عليه السلام الروح الأمين والقرآن روح من عند الله وبالله تعالى التوفيق فقد بطل قولهم في النفس وصح أنها جسم ولم يبق إلا الكلام في الجزء الذي قال أبو محمد‏:‏ ذهب جمهور المتكلمين إلى أن الأجسام تنحل إلى أجزاء صغار لا يمكن البتة أن يكون لها جزء وأن تلك الأجزاء جواهر لا أجسام لها وذهب النظام وكل من يحسن القول من الأوائل إلى أنه لا جزء وإن دق إلا وهو يحتمل التجزي أبداً بلا نهاية وأنه ليس في العالم جزؤ لا يتجزء وإن كل جزء انقسم الجسم إليه فهو جسم أيضاً وإن دق أبداً‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ وعمدة القائلين بوجود الجزء الذي لا يتجزأ خمس مشاغب وكلها راجعة بحول الله وقوته عليهم ونحن إن شاء الله تعالى نذكرها كلها ونتقصي لهم كل ما موهوا به ونرى بعون الله عز وجل بطلان جميعها بالبراهين الضرورية ثم نرى بالبراهين الصحاح صحة القول بأن كل جزء فهو يتجزأ أبداً وأنه ليس في العالم جزؤ لا يتجزأ أصلا كما فعلنا بسائر الأقوال والحمد لله رب العالمين‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ فأول مشاغبهم أن قالوا أخبرونا إذا قطع الماشي المسافة التي مشي فيها فهل قطع ذا نهاية أو غير ذي نهاية فإن قلتم قطع غير ذي نهاية فهذا محال وإن قلتم قطع ذا نهاية فهذا قولنا‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ فجوابنا وبالله تعالى التوفيق أن القوم أتوا من أحد وجهين إما أنهم لم يفهموا قولنا فتكلموا بجهل وهذا لا يرضاه ذو ورع ولا ذو عقل ولا حياء وإما أنهم لما عجزوا عن معارضة الحق رجعوا إلى الكذب والمباهتة وهذه شر من الأولى وفي أحد هذين القسمين وجدنا كل من ناظرناه منهم في هذه المسألة وهكذا عرض لنا سواء مع المخالفين لنا في القياس المدعين لتصحيحه فإنهم أيضاً أحد رجلين إما جاهل بقولنا فهو يقو لنا ما لا نقوله وليتكلم في غير ما اختلفنا فيه وإما مكابر ينسب إلينا ما لا نقوله مباهتة وجراءة على الكذب وعجزاً عن معارضة الحق من أننا ننكر اشتباه الأشياء وأننا ننكر قضايا العقول وأننا ننكر استواء حكم الشيئين فيما أوجبه لهما ما اشتبها فيه وهذا كله كذب علينا بل نقر بذلك كله ونقول به وإنما ننكر أن نحكم في الدين لشيئين بتحريم أو إيجاب أو تحليل من أجل أنهما اشتبها في صفة من صفاتهما فهذا هو الباطل البحث والحمد لله رب العالمين على عظيم نعمه‏.‏

ونقول على هذا السؤال الذي سألونا عنه أننا لم نرفع النهاية عن الأجسام كلها من طريق المساحة بل نثبتها ونعرفها ونقطع على أن كل جسم فله مساحة أبداً محدودة ولله الحمد وإنما نفينا النهاية عن قدرة الله تعالى على قسمة كل جزء وإن دق وأثبتنا قدرة الله تعالى على ذلك وهذا هو شيء غير المساحة ولم يتكلف القاطع بالمشي أو بالذرع أو بالعمل قسمة ما قطع ولا تجزئته وإنما تكلف عملاً أو مشى في مساحة معدومة بالميل أو بالذراع أو بالشبر أو الإصبع أو ما شابه ذلك وكل هذا له نهاية ظاهرة وهذا غير الذي نفينا وجود النهاية فيه فبطل إلزامهم والحمد لله كثيراً ثم نعكس هذا الاعتراض عليهم فنقول لهم وبالله تعالى التوفيق نحن القائلون بأن كل جسم فله طول وعرض وعمق وهو محتمل للانقسام والتجزئ وهذا هو إثبات النهاية لكل جزء انقسم الجسم إليه من طريق المساحة ضرورة وأنتم تقولون أن الجسم ينقسم إلى أجزاء ليس لشيء منها عرض ولا طول ولا عمق ولا مساحة ولا يتجزأ وليست أجساماً وأن الجسم هو تلك الأجزاء نفسها ليس هو شيء غيرها أصلاً وإن تلك الأجزاء ليس لشيء منها مساحة فلزمكم ضرورة إذ الجسم هو تلك الأجزاء ليست أجساماً وأن الجسم هو تلك الأجزاء وليس هو غيرها وكل جزء من تلك الأجزاء لا مساحة له إن الجسم لا مساحة له وهذا أمر يبطله العيان وإذا لم تكن له مساحة والمساحة هي النهاية في ذرع الأجسام فلا نهاية لما قطعه القاطع من الجسم على قولهم وهذا باطل والاعتراض الثاني إن قالوا لا بد أن يلي الجرم من الجرم الذي يليه جزء ينقطع ذلك الجرم فيه قالوا وهذا إقرار بجزء لا يتجزأ‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ وهذا تمويه فاسد لأننا لم ندفع النهاية من طريق المساحة بل نقول أن لكل جرم نهاية وسطحاً ينقطع تماديه عنده وإن الذي ينقطع به الجرم إذا جزئ فهو متناه محدود ولكنه محتمل للتجزئ أيضاً وكل جزئ فذلك الجزء وهو الذي يلي الجرم الملاصق له بنهايته من جهته التي لاقاه منها لا ما ظنوا من أن حد الجرم جزء منه وهو وحده الملاصق للجرم الذي يلاصقه بل هو باطل بما ذكرنا لكن الجزء وهو الملاصق للجرم بسطحه فإذا جزء كان الجزء الملاصق للجرم بسطحه هو الملاصق له حينئذ بسطحه لا الذي خر عن ملاصقته وهكذا أبداً والكلام في هذا كالكلام في الذي قبله ولا فرق والاعتراض الثالث إن قالوا هل ألف أجزاء الجسم إلا الله تعالى فلا بد من نعم قالوا فهل يقدر الله على تفريق أجزاء حتى لا يكون فيها شيء من التأليف ولا تحتمل تلك الأجزاء التجزئ أم لا يقدر على ذلك قالوا فإن قلتم لا يقدر عجزتم ربكم تعالى وإن قلتم يقدر فهذا إقرار منكم بالجزء الذي لا يتجزأ‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ هذا هو من أقوى شبههم التي شغبوا بها وهو حجة لها عليهم والجواب أننا نقول لهم وبالله تعالى التوفيق أن سؤالكم سؤال فاسد وكلام فاسد ولم تكن قط أجزاء العالم متفرقة ثم جمعها الله عز وجل ولا كانت له أجزاء مجتمعة ثم فرقها الله عز وجل لكن الله عز وجل خلق العالم بكل ما فيه بأن قال له كن فكان أو بأن قال لكل جرم منه إذا أراد خلقه كن فكان ذلك الجرم ثم إن الله تعالى خلق جميع ما أراد جمعه من الأجرام التي خلقها مفترقة ثم جمعها وخلق تفريق كل جرم من الأجرام التي خلقها مجتمعة ثم فرقها فهذا هو الحق لا ذلك السؤال الفاسد الذي أجملتموه وأوهمتم به أهل الغفلة أن الله تعالى ألف العالم من أجزاء خلقها متفرقة وهذا باطل لأنه دعوى بلا برهان عليها ولا فرق بين من قال أن الله تعالى ألف أجزاء العالم وكانت متفرقة وبين من قال بل الله تعالى فرق العالم أجزاء وإنما كان جزأ واحداً وكلاهما دعوى ساقطة لا برهان عليها لا من نص ولا من عقل بل القرآن جاء بما قلناه نصاً قال تعالى ‏"‏ إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ ‏"‏ ولفظة شيء تقع على الجسم وعلى العرض فصح أن كل جسم صغر أو كبر وكل عرض في جسم فإن الله تعالى إذا أراد خلقه قال له كن فكان ولم يقل عز وجل قط أنه ألف كل جرم من أجزاء متفرقة فهذا هو الكذب على الله عز وجل حقاً فبطل ما ظنوا أنهم يلزموننا به ثم نقول لهم أن الله تعالى قادر على أن يخلق جسماً لا ينقسم ولكنه لم يخلقه في بنية هذا العالم ولا يخلقه كما أنه تعالى قادر على أن يخلق عرضاً جسماً لا ينقسم ولكنه لم يخلقه في بنية هذا العالم ولا يخلقه كما أنه تعالى قادر على أن يخلق عرضاً قائماً بنفسه ولكنه تعالى لم يخلقه في بنية هذا العالم ولا يخلقه لأنهما مما رتبه الله عز وجل محالاً في العقول والله تعالى قادر على كل ما يسأل عنه لا نحاشي شيئاً منها إلا أنه تعالى لا يفعل كل ما يقدر عليه وإنما يفعل ما يشاء وما سبق في علمه أنه يفعله فقط وبالله تعالى التوفيق‏.‏

ثم نعطف هذا السؤال نفسه عليهم فنقول لهم هل يقدر الله عز وجل على أن يقسم كل جزء وينقسم كل قسم من أقسام الجسم أبداً بلا نهاية أم لا فإن قالوا لا يقدر على ذلك عجزوا ربهم حقاً وكفروا وهو قولهم دون تأول ولا إلزام ولكنهم يخافون من أهل الإسلام فيملحون ضلالتهم بإثبات الجزء الذي لا يتجزأ جملة‏.‏

وإن قالوا إنه تعالى قادر على ذلك صدقوا ورجعوا إلى الحق الذي هو نفس قولنا وخلاف قولهم جملة ونحن لا نخالفهم قط في أن أجزاء طحين الدقيق لا يقدر مخلوق في العالم على تجزئة تلك الأجزاء وإنما خالفناهم في أن قلنا نحن أن الله تعالى قادر على ما لا نقدر نحن عليه من ذلك و قالوا هم بل هو غير قادر على ذلك تعالى الله عما يقول الظالمون علواً كبيراً وقولهم في تناهي القدرة على قسمة الله تعالى الأجزاء هو القول بأن الله تعالى يبلغ من الخلق إلى مقدار ما ثم لا يقدر على الزيادة عليه ويبقي حسيراً عاجزاً تعالى الله عن هذا الكفر ولعمري أن أبا الهذيل شيخ المثبتين للجزء الذي لا يتجزأ ليحن إلى هذا المذهب حنيناً شديداً وقد صرح بأن لما يقدر الله عليه كمالاً وآخراً لو خرج إلى الفعل لم يكن الله تعالى قادراً بعده على تحريك ساكن ولا تسكين متحرك ولا على فعل شيء أصلاً ثم تدارك كفره ف قال ولا يخرج ذلك الآخر أبداً إلى حد الفعل‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ في قال له ما المانع من خروجه والنهاية حاصرة له والفعل قائم فلا بد مع طول الزمان من البلوغ إلى ذلك الآخر‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ نعوذ بالله من الضلال والاعتراض الرابع هو إن قالوا أيما أكثر أجزاء الجبل أو أجزاء الخردلة وأيما أكثر أجزاء الخردلة أو أجزاء الخردلتين قالوا فإن قلتم بل أجزاء الخردلتين وأجزاء الجبل صدقتم وأقررتم بتناهي التجزي وهو القول بالجزء الذي لا يتجزأ وإن قلتم ليس أجزاء الجبل أكثر من أجزاء الخردلة ولا أجزاء الخردلتين أكثر من أجزاء الخردلة كابرتم العيان لأنه لا يحدث في الخردلة جزء إلا ويحدث في الخردلتين جزآن وفي الجبل أجزاء وادعوا علينا أننا نقول أن في كل جسم أجزاء لا نهاية لعدده و قالوا أن عمدة حجتكم على الدهرية هو هذا المعنى نفسه في إلزامكم إياهم وجوب القلة والكثرة في عدد الأشخاص وأوقات الزمان وإيجابكم أن كل ما حصره العدد فذو نهاية وإنكاركم على الدهرية وجود أشخاص وأزمان لا نهاية لعددها قالوا ثم نقضتم كل ذلك في هذا المكان‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ هو الذي قلنا أنهم إما لم يفهموا كلامنا في هذه المسألة فقولونا ما لا نقوله بظنونهم الكاذبة وأما أنهم عرفوا قولنا فحرفوه قلة حياء واستحلال الكذب وجراءة على عمل الفضيحة لهم في كذبهم وعجزاً منهم عن كسر الحق ونصر الباطل فاعلموا أن كل ما نسبوه غلينا من قولنا أن من قطع مكاناً أو شيئاً بالمشي أو بالجملتين فإنما قطع ما لا نهاية له فباطل ما قلناه قط بل ما قطع إذا ذا نهاية بمساحته وزمانه وأما احتجاجنا على الدهرية بما ذكروا فصحيح هو حجتنا على الدهرية وأما ادعاؤهم أننا نقضنا ذلك في هذا المكان فباطل والفرق بين ما قلناه من أنل كل جزء فهو يتجزأ أبداً بلا نهاية وبين ما احتججنا به على الدهرية من إيجاب النهاية بوجود القلة والكثرة في أعداد الأشخاص والأزمان وإنكارنا عليهم وجود أشخاص وأزمان لا نهاية لها بل هو حكم واحد وباب واحد وقول واحد ومعنى واحد وذلك أن الدهرية أثبتت وجود أشخاص قد خرجت إلى الفعل لا نهاية لعددها ووجود أزمان قد خرجت إلى الفعل لا نهاية لها وهذا محال ممتنع وهكذا قلنا في كل جزء خرج إلى أحد الفعل فإنها متناهية العدد بلا شك ولم نقل قط أن أجزائه موجودة منقسمة لا نهاية لعددها بل هذا باطل محال ثم إن الله تعالى قادر على الزيادة في الأشخاص وفي الأزمان وفي قسمة الجزء أبداً بلا نهاية لكن كل ما خرج إلى الفعل أو يخرج من الأشخاص أو الأزمان أو تجزئة الأجزاء فكل ذلك متناه بعدده إذا خرج وهكذا أبداً وأما ما لم يخرج إلى حد الفعل بعد من شخص أو زمان أو تجزئ إذا خرج وهكذا أبداً وأما ما لم يخرج إلى حد الفعل بعد من شخص أو زمان أو تجزئ فليس شيئاً ولا هو عدداً ولا معدوماً ولا يقع عليه عدد ولا هو شخص بعد ولا زمان ولا جزؤ وكل ذلك عدم وإنما يكون جزء إذا جزئ بقطع أو برسم مميز لا قبل أن يجزئ وبهذا تتبين غناثة سؤالهم في أيما أكثر أجزاء الخردلة أو أجزاء الجبر أو أجزاء الخردلتين لأن الجبل إذا لم يجزأ والخردلة إن لم تجزأ والخردلتان إذا لم تجزئا فلا أجزاء لها أصلاً بعد بل الخردلة جزء واحد والجبل جزء واحد والخردلتان كل واحدة منهما جزء فإذا قسمت الخردلة على سبعة أجزاء وقسم الجبل جزأين وقسمت الخردلتان جزأين جزأين فالخردلة الواحد بيقين أكثر أجزاء من الجبل والخردلتين لأنها صارت سبعة أجزاء ولم يصر الجبل والخردلتان إلا ستة أجزاء فقط فلو قسمت الخردلة ستة أجزاء لكانت أجزاؤها وأجزاء الجبل والخردلتين سواء ولو قسمت الخردلة خمسة أجزاء وكانت أجزاء الجبل والخردلتين أكثر من أجزاء الخردلة وهكذا في كل شيء فصح أنه لا يقع التجزيء في شيء إلا إذا قسم لا قبل ذلك فإن كانوا يريدون في أيهما يمكننا التجزئة أكثر في الجبل والخردلتين أم في الخردلة الواحدة فهذا ما لا شك فيه أن التجزيء أمكن لنا في الجبل والخردلتين أم في الخردلة الواحد لأن الخردلة الواحدة عن قريب تصغر أجزاؤها حتى لا نقدر نحن على قسمتها ويتمادى لنا الأمر في الجبل كثيراً حتى أنه يفنى عمر أحدنا قبل أن يبلغ تجزئته إلى أجزاء تدق عن قسمتنا وأما قدرة الله عز وجل على قسمة ما عجزنا نحن عن قسمته من ذلك فباقية غير متناهية وكل ذلك عليه هين سواء ليس بعضه أسهل عليه من بعض بل هو قادر على قسمة الخردلة أبداً بلا نهاية وعلى قسمة الفلك كذلك ولا فرق وبالله تعالى التوفيق ونزيد بياناً فنقول أن الشيء قبل أن يجزأ فليس متجزئاً فإذا جزء بنصفين أو جزأين فهو جزءان فقط فإذا جزء على ثلاثة أجزاء فقط فهو ثلاثة أجزاء وهكذا أبداً وأما من قال أو ظن أن الشيء قبل أن ينقسم وقبل أن يتجزأ أنه منقسم بعد ومتجزئ بعد فوسواس وظن كاذب لكنه محتمل الانقسام والتجزؤ وكل ما قسم وجزأ فكل جزء ظهر منه فهو معدود متناه وكذلك كل جسم فطوله وعرضه متناهيان بلا شك والله تعالى قادر على الزيادة فيهما أبداً بلا نهاية إلا أن كل ما زاده تعالى في ذلك وأخرجه إلى حد الفعل فهو متناه ومعدود ومحدود وهكذا أبداً وكذلك الزيادة في أشخاص العالم وفي العدد فإن كل ما خرج إلى حد الفعل من الأشخاص ومن الأعداد فذو نهاية والله تعالى قادر على الزيادة في الأشخاص أبداً بلا نهاية والزيادة في العدد ممكنة أبداً بلا نهاية إلا أن كل ما خرج من الأشخاص والأعداد إلى الفعل صحبته النهاية ولا بد ثم نعكس هذا السؤال عليهم فنقول لهم وبالله تعالى التوفيق أتفضل عندكم قدرة الله تعالى على قسمة الجبل على قدرته على قسمة الخردلة وهل تأتى حال يكون الله فيها قادراً على قسمة أجزاء الجبل غير قادر على قسمة أجزاء الخردلة أم لا فإن قالوا بل قدرة الله تعالى على قسمة الجبل أتم من قدرته على قسمة الخردلة وأقروا بأنه تأتى حال يكون الله تعالى فيها قادراً على قسمة أجزاء الجبل غير قادر على قسمة أجزاء الخردلة كفروا وعجزوا ربهم وجعلوا قدرته محدثة متفاضلة متناهية وهذا كفر مجرد وإن أبوا من هذا و قالوا إن قدرة الله تعالى على قسمة الجبل والخردلة سواء وأنه لا سبيل إلى وجود حال يقدر الله تعالى فيها على تجزئة أجزاء الجبل ولا يقدر على تجزئة أجزاء الخردلة صدقوا ورجعوا إلى قولنا الذي هو الحق وما عداه ضلال وباطل والحمد لله رب العالمين والاعتراض الخامس هو أن قالوا هل لأجزاء الخردلة كل أم ليس لها كل وهل يعلم الله عدد أجزائها أم لا يعلمه فإن قلتم لا كل لها نفيتم النهاية عن المخلوقات الموجودات وهذا كفر وإن قلتم إن الله تعالى لا يعلم عدد أجزائها كفرتم وإن قلتم أن لها كلاً وإن الله تعالى يعلم أعداد أجزائها أقررتم بالجزء الذي لا يتجزأ‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ وهذا تمويه لائح ينبغي التنبيه عليه لئلا يجوز على أهل الغفلة وهو أنهم أقحموا لفظة كل حيث لا يوجد كل وسألوا هل يعلم الله تعالى عدد ما لا عدد له وهم في ذلك كمن سأل هل يعلم الله تعالى عدد شعر لحية الأحلس أم لا وهل يعلم جميع أولاد العقيم أم لا وهل يعلم كل حركات أهل الجنة والنار أم لا فهذه السؤالات كسؤالهم ولا فرق وجوابنا في ذلك كله أن الله عز وجل إنما يعلم الأشياء على ما هي عليه لا على خلاف ما هي عليه لأن من علم الشيء على ما هو عليه فقد علمه حقاً وأما من علم الشيء على خلاف ما هو عليه فلم يعلمه بل جهله وحاشا لله من هذه الصفة فما لا كل له ولا عدد له فإنما يعمله الله عز وجل أن لا عدد له ولا كل وما علم الله عز وجل قط عدداً ولا كلاً إلا لما له عدد وكل لا لما لا عدد له ولا كل وكذلك لم يعلم الله عز وجل قط عدد شعر لحية الأطلس ولا علم قط ولد العقيم فكيف أن يعرف لهم كلاً وكذلك لم يعلم الله عز وجل قط عدد أجزاء الجبل ولا الخردلة قبل أن يجزئا لأنهما لا جزء لهما قبل التجزئة وإنما علمهما غير متجزئين وعلمهما محتملين للتجزيء فإذا جزئا علمهما حينئذ متجزئين وعلم حينئذ عدد أجزائهما ولم يزل تعالى يعلم أنه يجزئ كل ما لا يتجزأ ولم يزل يعلم عدد الأجزاء التي لا تخرج في المستأنف إلى حد الفعل ولم يزل يعلم عدد ما يخرج من الأشخاص بخلقه في الأبد إلى حد الفعل أو لم يزل يعلم أنه لا أشخاص زائدة على ذلك ولا أجزاء لما لم ينقسم بعد وكذلك ليس للخردلة ولا للجبل قبل التجزيء أجزاء أصلاً وإذ ذلك كذلك فلا كل هاهنا ولا بعض فهذا بطلان سؤالهم والحمد لله رب العالمين ثم نعكس عليهم هذا السؤال فنقول لهم وبالله تعالى التوفيق أخبرونا عن الشخص الفرد من خردلة أو وبرة أو شعرة أو غير ذلك إذا جزأنا كل ذلك جزئين أو أكثر متى حدثت الأجزاء أحين جزئت أم قبل أن تجزء فإن قالوا قبل أن تجزئ ناقضوا أسمج مناقضة لأنهم أقروا بحدوث أجزاء كانت قبل حدوثها وهذا سخف وإن قالوا إنما حدثت لها الأجزاء حين جزئت لا قبل ذلك سألناهم متى علمها الله تعالى متجزئة حين حدث فيها التجزيء أم قبل أن يحدث فيها التجزيء فإن قالوا ب حين حدث فيها الجزيء صدقوا وأبطلوا قولهم في أجزاء الخردلة وإن قالوا بل علم أنها متجزئة وأن لها أجزاء قبل حدوث التجزيء فيها جهلوا ربهم تعالوا إذا خبروا أنه يعلم الشيء بخلاف ما هو قال أبو محمد‏:‏ هذا كل ما موهوا به لم ندع لهم منه شيئاً إلا وقد أوردناه وبينا أنه كله لا حجة لهم في شيء منه وأنه كله عائد عليهم وحجة لنا والحمد لله رب العالمين ثم نبتدئ بحول الله تعالى وقوته بإيراد البراهين الضرورية على أن كل جسم في العالم فإنه متجزئ محتمل للتجزئة وكل جزء من جسم فهو أيضاً جسم محتمل للتجزيء وهكذا أبداً وبالله تعالى نتأيد‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ ي قال لهم وبالله تعالى نستعين أخبرونا عن هذا الجزء الذي قلتم أنه لا يتجزأ أهو في العالم أم ليس في العالم ولا سبيل إلى قسم ثالث فإن قالوا ليس هو في العالم صدقوا وأبطلوه إلا أنهم يلزمهم قول فاحش وهو أنهم يقولون أن جميع العالم مركب من أجزاء لا تتجزأ والكل ليس هو شيئاً غير تلك الأجزاء فإن كانت تلك الأجزاء ليست في العالم فالعالم عدم ليس في العالم وهذا تخليط كما ترى وإن قالوا بل هو في العالم قلنا لهم لا يخلوا إن كان في كرة العالم من أن يكون إما قائماً بنفسه حاملاً وإما أن يكون محمولاً غير قائم بنفسه لا بد ضرورة من أحد الأمرين إذ ليس العالم كله إلا على هذين القسمين فإن كان محمولاً غير قائم بنفسه فهو عرض من الأعراض وإن كان حاملاً قائماً بنفسه ذا مكان فهو جسم وثم ي قال لهم أخبرونا عن الجزء الذي ذكرتم أنه لا يتجزأ وهو على قولكم في مكان لأنه بعض من أبعاض الجسم هل الملاقي منه للمشرق هو الملاقي للمغرب أم غيره وهل المحازي منه للسماء هو المحازى منه للأرض أم هو غيره فإن قالوا كل ذلك واحد والملاقي منه للمشرق هو الملاقي منه للمغرب والمحازى للسماء هو المحازى منه للأرض أتوا بإحدى العظائم وجعلوا جهة المشرق منه هي جهة المغرب وجعلوا السماء والأرض منه في جهة واحدة وهذا حمق لا يبلغه إلا الموسوس ومكابرة للعيان لا يرضاها لنفسه سالم البنية وإن قالوا بل الملاقي منه للمشرق هو غير الملاقي منه للمغرب وأن السماء والأرض منه في جهتين متقابلتين فوق وأسفل صدقوا وهكذا جهة الجنوب والشمال فإذ ذلك كذلك بلا شك فقد صح أنه ذو جهات ست متغايرة وهذا إقرار منهم بأنه ذو أجزاء إذ قطعوا بأن الملاقي منه للمغرب غير الملاقى منه للمشرق ومن للتبعيض وبطل قولهم من قرب والحمد لله رب العالمين‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ فإن أرادوا إلزامنا مثل هذا في العرض قلنا ليس للعرض جهة ولا له مكان ولا يقوم بنفسه ولا يحاذى شيئاً وإنما يحاذى الأشياء حامل العرض لا العرض إذ لو ارتفع العرض لبقي حامله مالئاً لمكانه كما كان محاذياً من جميع جهاته ما كان يحاذى حين حمله للعرض سواء سواء ولو ارتفع في قولكم الجزاء الذي لا يتجزأ لبقي مكانه خالياً منه وقد أوضحنا أن عرضين وأعراضاً تكون في جسم واحد في جهة واحدة منه وهم يختلفون في أن جزئين كل واحد منهما لا يتجزأ فلا يمكن البتة أن يكونا جميعاً في مكان واحد بل لكل واحد منهما عندهم مكاناً غير مكان الآخر وبرهان آخر وهو أنهم يقولون أن الجزء الذي لا يتجزأ لا طول له ولا عرض ولا عمق فنقول لهم وبالله تعالى التوفيق إذا أضفتم إلى الجزء الذي لا يتجزأ عندكم جزءاً آخر مثله لا يتجزأ أليس قد حدث لهما طول فلا بد من قولهم نعم لا يختلفون في ذلك ولو أنهم قالوا لا يحدث لهما طول للزمهم مثل ذلك في إضافة جزء ثالث ورابع وأكثر حتى يقولوا أن الأجسام العظام لا طول لها ويحصلوا في مكابرة العيان فنقول لهم إذا قلتم أن جزءاً لا يتجزأ لا طول له إذا ضم إليه جزء آخر لا يتجزأ ولا طول له فأيهما يحدث له طول فقولوا لنا هل يخلو هذا الطول الحادث عندكم من أحد ولثلاثة أوجه لا رابع لها إما أن يكون هذا الطول لأحدهما دون الآخر أو لا لواحد منهما أو لكليهما فإن قلتم ليس هذا الطول لهما ولا لواحد منهما فقد أوجبتم طولاً لا لطويل وطولاً قائماً بنفسه والطول عرض والعرض لا يقوم بنفسه وصفة والصفة لا يمكن أن توجد إلا في موصوف بها ووجود طول لا لطويل مكابرة ومحال وإن قلتم أن ذلك الطول هو لأحد الجزأين دون الآخر فقد أحلتم وأتيتم بما لا شك بالحس وضرورة العقل في بطلانه ولزمكم أن الجزء الذي لا يتجزأ له طول وإذا كان له طول فهو بلا شك يتجزأ وهذا ترك منكم لقولكم مع أنه أيضاً محال لأنه يجب من هذا أن يتجزأ ولا يتجزأ وإن قلتم أن ذلك الطول للجزأين معاً صدقتم وأقررتم بالحق في أن كل جزء منهما فله حصته من الطول والحصة من الطول طول بلا شك وإذا كان كل واحد منهما له طول فلكل واحد منهما له طول فكل واحد منهما يتجزأ وهذا خلاف قولكم أنه لا يتجزأ وهذا برهان ضروري أيضاً لا محيد عنه وبالله تعالى التوفيق برهان آخر‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ ونقول لهم أيما أطول جزآن لا يتجزأ كل واحد منهما وقد ضم أحدهما إلى الآخر ثم أحدهما غير مضموم إلى الآخر فلا يجوز أن يقول أحد إلا أن الجزأين المضمومين أطول من أحدهما غير مضموم إلى الآخر فإذ ذلك كذلك فمن المحال الممتنع الباطل أن ي قال في شيء هذا أطول من هذا إلا وفي الآخر طول دون طول ما هو أطول منه فقد صح ضرورة أن الطول موجود لكل جزء قالوا فيه أنه لا يتجزأ وإذا كان له طول فهو منقسم بلا خلاف من أحد منا ومنهم وهكذا القول في عرضهما أن ضم أحدهما إلى الآخر وفي عمقهما كذلك ولا بد من أن يكون لكل واحد منهما حصة من العرض والعمق وإذ ذاك كذلك ضرورة فكل جزء قالوا فيه أنه لا يتجزأ فلا بد من أن يكون له طول وعرض وعمق وإذ ذلك كذلك فهو جسم يتجزأ ولا بد وهذا أيضاً برهان ضروري لا محيد عنه وبالله تعالى التوفيق‏.‏

وقد رام أبو الهذيل التخلص من هذا الإلزام فبعد ذلك عليه لأنه رام محالاً ف قال أن الطول الحادث للجزأين عند اجتماعهما إنما هو كالاجتماع الحادث لهما ولم يكن لهما ولا لأحدهما إذ كانا منفردين‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ وهذا تمويه ظاهر لأن الاجتماع هو ضم أحدهما إلى الآخر نفسه ليس هو شيئاً آخر ولم يكونا قبل الضم والجمع مضمومين ولا مجتمعين وليس معنى الطول والعرض والعمق كذلك بل هو شيء آخر غير الضم والجمع وإنما هو صفة للطويل مضموماً كان إلى غيره أو غير مضموم ولا يوجب الجمع والضم طولاً لم يكن واجباً قبل الضم والجمع فلم يزد أبو الهذيل على أن قال لما اجتمعا صارا مجتمعين وصارا طويلين وهذه دعوى فاسدة ونظر منحل لأن قوله لما اجتمعا صارا مجتمعين صحيح لا شك فيه وقوله وصارا طويلين دعوى مجردة من الدليل جملة وما كان هكذا فهو باطل وأيضاً فإن الاجتماع لما حدث بينهما بطل معنى آخر كان موجوداً فيهما وهو الافتراق الذي هو ضد الاجتماع فأخبرونا إذا حدث الطول بزعمكم فأي شيء هو المعنى الذي ذهب بوجود الطول وعاقبة الطول ولا سبيل لهم إلى وجوده فصح أن الطول كان موجوداً في كل جزء على انفراده وكذلك العرض والعمق ثم لم اجتمعا زاد الطول والعرض والعمق وهكذا أبدا وبالله تعالى التوفيق وهذا هو الذي تشهد له الحواس والمشاهدة والعقل والحمد لله رب العالمين وبرهان آخر وهو أن الجرم إن كان أحمر فكل جزؤ من أجزائه أحمر بلا شك فإن قالوا ليس أحمر قلنا لهم فلعله أخضر أو أصفر أو غير ذي لون وهذا عين المحال لأن الكل قد بينا أنه ليس هو شيئاً غير أجزائه فلو كان لون أجزائه غير لونه كله لكان لونه غير لونه وهذا محال فإذ لا شك فيما ذكرنا فالجزؤ الذي يدعون أنه لا يتجزأ هو ذو لون بلا شك وإذ هو ذو لون فهو جسم لا يعقل غير ذلك فهو يتجزى‏.‏

قال أو محمد‏:‏ و قال ت الأشعرية ههنا كلاما ظريفاً وهو أنهم قالوا هو ذو لون واحد‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ كل ملون فهو ذو لون واحد لا ذو ألوان كثيرة إلا أن يكون أبلق أو موشى برهان آخر أن وجود شيء في العالم قائم بنفسه ليس جسماً ولا عرضاً ولا قابلاً للتجزئ ولا طول ولا عرض ولا عمق فهو محال ممتنع إذ هذا المذكور ليس هو شيئاً غير الباري تعالى وجل تعالى أن يكون له في العالم شبه وبهذا بان عز وجل عن مخلوقاته ولم يكن له كفواً أحد وليس كمثله شيء برهان آخر‏.‏

قال أو محمد‏:‏ كل شيء يحتمل أن يكون له أجزاء كثيرة فبالضرورة ندري أنه يحتمل أن يتجزأ إلى أٌل منها هذا ما لا تختلف العقول والإحساس فيه كشيء احتمل أن يقسم على أربعة أقسام فلا شك أنه يحتمل أن يقسم على ثلاثة وعلى اثنين وهكذا في كل عدد ومن دافع في هذا فإنما يدافع الضرورة ويكابر العقل فلوا أقمت خطا من ثلاثة أجزاء كل جزء منها لا يتجزأ على قولهم أو يعمل ذلك الخط من عشرة أجزاء وكذلك ومن ألف جزءٍ كذلك أو مما زاد فإنه لا يختلف أحد في أن الخط الذي هو من ثلاثة أجزاء فإنه ينقسم أثلاثاً في موضعين وأن الذي هو أربعة أجزاء فإنه ينقسم أرباعاً في ثلاثة مواضع وأن الذي من ألف جزؤ فإنه ينقسم أعشاراً وبنصفين وإذ لا شك في هذا فبيقين لا محيد عنه يدري كل ذي حس سليم ولو أنه عالم أو جاهل أن ما انقسم أثلاثاً فإنه ينقسم نصفين مستويين وما انقسم أرباعاً فإنه ينقسم أثلاثاً مستوية وإن ما كان من الخطوط فله أعشار وأخماس ونصف وأثلاث وأسداس وأسباع متساوية فإذ لا شك في هذا فإن القسمة لا بد أن تقع في نصف جزءٍ منها أو في أقل من نصفه فصح أن كل جسم فهو يتجزأ ضرورة وإن الجزء الذي لا يتجزأ باطل معدوم من العالم وهذا ما مخلص لهم منه وبالله تعالى التوفيق برهان آخر‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ بلا شك نعلم أن الخطين المستقيمين المتوازيين لا يلتقيان أبداً ولو مدا عمر العالم أبداً بلا نهاية وأنك إن مددت من الخط الأعلى إلى الخط المقابل له خطين مستقيمين متوازيين قام منهما مربع بلا شك فإذا أخرجت من زاوية ذلك المربع خطاً منحدراً من هنالك إلى الخط الأسفل فإن تلك الخطوط المخرجة من الضلع الذي ذكرنا وتلك الخطوط المخرجة من الزاوية لا تمر مع الخط الأعلى أبداً لأنها غير موازية له فإذ ذلك كذلك فذلك الضلع منقسم أبداً لا بد ما أخرجت الخطوط بلا نهاية برهان آخر‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ وبالضرورة ندري أن كل مربع متساوي الأضلاع فإن الخط القاطع من الزاوية العليا إلى الزاوية السفلى التي لا يوازيها يقوم منه في المربع مثلثان متساويان وأنه لا شك أطول من كل ضلع من أضلاع ذلك المربع على انفراده فنسألهم عن مائة جزءٍ لا يتجزأ رتبت متلاصقة عشرة عشرة فبالضرورة نجد فيها ما ذكرنا فبيقين نعلم حينئذ أن كل جزءٍ من الأجزاء المذكورة لولا أن له طولاً وعرضاً لما كان الخط المار بها القاطع للمربع القائم منها على مثلثين متساويين أطول من الخط المار بكل جهة من جهات ذلك المربع على استواء وموازاة للخطوط الأربعة المحيطة بذلك المربع وهو أطول منه بلا شك فصح ضرورة أن لكل جزء منها طولاً وعرضاً وأن ما له طول وعرض فهو متجزء بلا شك فصح أيضاً بما ذكرنا أن كل جزءٍ مر عليه الخط المذكور فقد انقسم برهان آخر وأيضاً فإننا لو أقمنا خطاً من أجزاء لا تتجزأ على قولهم مستقيماً ثم أدرناه حتى يلتقي طرفاه ويصير دائرة فبالضرورة يدري كل ذي حس سليم أن الخط إذا أدير حتى يلتقي طرفاه فإن ما قابل من أجزائه مركز الدائرة أضعف مما يقابل منها خارج الدائرة فإذ ذلك كذلك فهذا لازم في هذا الخط المدار بلا شك وإذ لا شك في هذا فقد فضل أحد طرفي الجزء الذي لا يتجزأ عندهم فضلة على طرفه الآخر وهكذا كل جزءٍ من تلك الأجزاء بلا شك فصح ضرورة أنه محتمل للانقسام ولا بد وبالله تعالى التوفيق برهان آخر نسألهم عن دائرة قطرها أحد عشر جزءاً لا يتجزأ كل واحد منها عندهم أو أي عدد شئت على الحساب فأردنا أن نقسمها بنصفين على السواء ولا خلاف في أن هذا ممكن فبالضرورة ندري أن الخط القاطع على قطر الدائرة من المحيط إلى ما قابله من المحيط ماراً على مركزها لا يقع البتة إلا في أنصاف تلك الأجزاء فصح ضرورة أنها لا تتجزأ ولو لم يمر ذلك الخط على أنصافها لما قسم الدائرة بنصفين وبالله تعالى التوفيق وبرهان آخر وهو أن نسألهم عن الجزء الذي لا يتجزأ الذي يحققونه إذا وضع على سطح زجاجة ملساء مستوية هل له حجم زائد على سطحها أم لا حجم له زائد على سطحها فإن قالوا لا حجم له زائداً على سطحها أعدموه ولم يجعلوا له مكاناً ولا جعلوه متمكناً أصلاً فنسألهم عن جزئين جعلا كذلك فلا بد من قولهم أن لهما حجماً فنسألهم عن ذلك الحجم ألهما معاً أم لأحدهما فأي ذلك قالوا أثبتوا ولا بد الحجم لهما وللجزء الذي هو أحدهما وإذا كان للجزء الذي لا يتجزأ حجم زائد فالذي لا شك فيه أن له ظلاً وإذا صح يقيناً أن له ظلاً فلا شك في أن الظل يزيد وينقص ويمتد ويتقلص ويذهب إذا سامتته الشمس فإذ ذلك كذلك فبيقين ندري أن ظله ينقص حتى يكون أقل من قدره وإذ ذلك فقد ظهر ووجب أن له تجزياً ومقداراً وبرهان آخر وهو أننا نسألهم عن جزؤ لا يتجزأ من الحديد أو من الذهب وجزؤ لا يتجزأ من خيط قطن هل ثقلهما ووزنهما سواء أم الذي من الذهب أو الحديد أثقل من الذي من القطن فإن قالوا ثقلهما ووزنهما سواء كابروا ولزمهم هذا في ألف جزؤ كذلك من الذهب أنهما ليستا أثقل من ألف جزؤ من القطن مجتمعة كانت الأجزاء أو متفرقة وهذا جنون ومكابرة وأن قالوا بل الذي من الذهب أوزن وأثقل صدقوا وأوجبوا أن له تجزياً يتفاضل الوزن ضرورة ولا بد‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ فهذه براهين ضرورية قاطعة بأن كل جزء فهو يتجزأ أبداً بلا نهاية وأن جزاء لا يتجزأ ليس في العالم أصلاً ولا يمكن وجوده بل هو من المحال الممتنع وبالله تعالى التوفيق‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ أما أبو الهذيل فخلط في هذا الباب وحق لمن رام نصر الباطل أن يخلط ف قال وأنه الجزؤ الذي لا يتجزأ ذو حركة وسكون يتعاقبان عليه وأن يشغل مكاناً لا يسع فيه معه غيره وأنه أقرب إلى السماء من مكانه الذي هو عليه من الأرض وهذا غاية التناقص إذ ما كان هكذا فله مساحة بلا شك وهو ذو جهات ست فللمساحة أجزاء من نصف وثلث وأقل وأكثر وما كان ذا جهات فالذي منه في كل جهة غير الذي منه في الجهة الأخرى بلا شك وما كان هذا فهو محتمل للتجزي بلا شك وما عدا هذا فوسواس نعوذ بالله منه‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ في تخليطهم هذا اختلافاً ظريفاً أيضاً فأجمعوا أنه إذا ضم جزؤ لا يتجزء إلى جزؤ لا يتجزأ فصار اثنين فقد حدث لهما طول ثم اختلفوا متى يصير جسماً له طول وعرض وعمق ف قال بعضهم إذ صار جزئين صار جسماً وهو قول الأشعرية و قال بعضهم إذا صارا أربعة أجزاء و قال بعضهم بل إذا صارا ستة أجزاء واتفقوا على أنه إذا صارا ثمانية أجزاء فقد صار جسماً له طول وعرض وعمق وكل هذا تخليط ناهيك به وجهل شديد كان الأولى بأهله أن يتعلموا قبل أن يتكلموا بهذه الحماقات برهان ذلك أنهم لم يختلفوا أنهم إذا صفوا أربعة أجزاء لا يتجزأ وتحتها أربعة أجزاء لا يتجزأ فإنه قد صار عندهم الجميع من هذه الأجزاء جسماً طويلاً عيضاً عميقاً‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ وهذا الذي طابت نفوسهم عليه وأنست عقولهم إليه في الثمانية وسهل على بعضهم دون بعض في ثلاثة أجزاء تحتها ثلاثة أجزاء وفي جزئين تحتها جزآن ومنعوا كلهم من ذلك في جزؤ على جزؤ حاشا الأشعرية فإنه بعينه موجود على أصولهم المخذولة وأقوالهم المرذولة في جزؤ على جزؤ على جزؤ سواء سواء بعينه وذلك أن أربعة أجزاء على أربعة جزاء فإنما الحاصل منها جزؤ على جزء فقط من كل جهة فإذا جعلوا الأربعة على الأربعة طولاً فإنما جعلوه في جزؤ إلى جنب جزؤ كذلك فعلوا في العرض وكذلك فعلوا في العمق وإذ هو كذلك والطول عندهم يوجد في جزء إلى جنب جزء والعرض يوجد جنب الطول لأن العرض لا يكون أكثر من الطول أصلاً والعمق موجود فيهما أيضاً فظهر أن لكل جزء منها طولاً وعرضاً وعمقاً قال أبو محمد‏:‏ فإذا قد بطل قولهم في الجزء الذي لا يتجزأ وفي كل ما أوجبوه أنه جوهر لا جسم ولا عرض فقد صح أن العالم كله حامل قائم بنفسه ومحمول لا يقوم بنفسه ولا يمكن وجود أحدهما متخلياً فالمحمول هو العرض والحامل هو الجوهر وهو الجسم سمه كيف شئت ولا يمكن في الوجود غيرهما وغير الخالق لهما تعالى وبالله تعالى التوفيق‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ و قال هؤلاء الجهال أن العرض لا يبقى وقتين وأنه لا يحمل عرضاً‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ وقد كلمناهم في هذا وتقرينا كتبهم فما وجدنا لهم حجة في هذا أصلاً أكثر من أن بعضهم قال لو بقي وقتين لشغل مكاناً‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ وهذه حجة فقيرة إلى حجة ودعوى كاذبة نصر بها دعوى كاذبة ولا عجب أكثر من هذا ثم لو صحت لهم للزمهم هذا بعينه فيما جوزوه من بقاء العرض وقتاً واحداً وي قال لهم ما الفرق بينكم وبين من قال لو بقي العرض وقتاً واحداً لشغل مكاناً وبيقين يدري كل ذي حس سليم أنه لا فرق في اقتضاء المكان بين بقاء وقت واحد وبين بقاء وقتين فصاعداً فإن أبطلوا بقاءه وقتاً لزمهم أنه ليس باقياً أصلاً وإذا لم يكن باقياً فليس موجوداً أصلاً وإذ لم يكن موجوداً فهو معدوم فحصلوا من هذا التخليط على نفي الأعراض ومكابرة العيان وي قال لهم ما الفرق بينكم وبين من قال بل يبقى وقتين ولا يبقى ثلاثة أوقات إذ لو بقي ثلاثة أوقات لشغل مكاناً وكل هذا هوس وليس من أجل البقاء وجب اقتضاء الباقي المكان لكن من أجل أنه طويل عريض عميق فقط ولا مزيد وقد قال بعضهم أن الشيء في حين خلق الله تعالى له ليس باقياً ولا فانياً وهذه دعوى في الحمق كما سلف لهم ولا فرق وهي مع ذلك لا تعقل ولا يتمثل في الوهم أن يكون في الزمان أو في العالم شيء موجود ليس باقياً ولا فانياً‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ ولا عجب أعجب من حمق من قال أن بياض الثلج وسواد القار وخضرة البقل ليس شيء منها الذي كان آنفاً بل يفني في كل حين ويستعيض ألف ألف بياض وأكثر وألف ألف خضرة وأكثر هذه دعوى عارية من الدليل إلا أنها جمعت السخف مع المكابرة‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ والصحيح من هذا هو ما قلناه ونقوله أن الأعرض تنقسم أقساماً فمنها ما لا يزول ولا يتوهم زواله لإنفساد ما هو فيه لو أمكن ذلك كالصورة الكلية أو كالطول والعرض والعمق ومنها ما لا يزول ولا يتوهم زواله إلا بإنفساد حامله كالاسكار في الخمر ونحو ذلك فإنها إن لم تكن مسكرة لم تكن خمراً وهكذا كل صفة يجدها ما هي عليه ومنها ما لا يزول إلا بفساد حامله إلا أنه لو توهم زائلاً لم يفسد حامله كزرق الأزرق وفطس الأفطس فلو زالا لبقي الإنسان إنساناً بحسبه ومنها ما يبقى مدداً طوالاً وقصاراً وربما زايل ما هو فيه كسواد الشعر وبعض الطعوم والخشونة والاملاس في بعض الأشياء والطيب والنتن في بعضها والسكون والعلم وكبعض الألوان التي تستحيل ومنها ما يسرع الزوال كحمرة الخجل وكمدة الهم وليس من الأعراض شيء يفني بسرعة حتى لا يمكن أن يضبط مدة بقائه إلا الحركة فقط على أنها بضرورة العقل والحسن ندري أن حركة الجزء من الفلك التي تقطع بنصفين من شرق إلى غرب أسرع من حركة الجزء منه الذي حوالي القطبين لأن كل هذين الجزأين يرجع إلى مكانه الذي بدأ منه في أربع وعشرين ساعة وبين دائريهما في الكبر ما لا يكون مساحة خط دائرة أو خط مستقيم أكثر منه في العالم وبيقين يدري أن حركة المذعورة في طيرانها أسرع من حركة السلحفاة في مشيها وأن حركة المنساب في الحدور أسرع من حركة الماء الجاري في مسيل النهر وأن حركة العصر في الجري أسرع من حركة الماشي فصح يقيناً أن في خلال الحركات أيضاً بقاء إقامة يتفاضل في مدته لأن الحركات كلها إنما هي نقلة من مكان إلى مكان فللمتحرك مقابلة ولا بد لكل جرم مر عليه ففي تلك المقابلات يكون التفاضل في السرعة أو في البطئ إلا أنه لا يحس أجزاؤه ولا تضبط دقائقه إلا بالعقل فقط الذي به يعرف زيادة الظل والشمس ولا يدرك ذلك بالحس إلا إذا اجتمعت منه جملة ما فإنه حينئذ يعرف بحس البصر كما لا يدرك بالحواس نماء النامي إلا إذا اجتمعت منه جملة ما وكما يعرف بالعقل لا بالحس أن لكل خردلة جزءاً من الأث قال فلا يحس إلا إذا اجتمعت منه جملة ما وكذلك الشبع والري وكثير من أعراض العالم فتبارك خالق ذلك هو الله أحسن الخالقين وأما قولهم أن العرض لا يحمل العرض فكلام فاسد مخالف للشريعة وللطبيعة وللعقل وللحواس ولإجماع جميع ولد آدم لأننا لا نختلف في أن نقول حركة سريعة وحركة بطيئة وحمرة مشرقة وخضرة أشد من خضرة وخلق حسن وخلق مسيء و قال تعالى ‏"‏ إن كيدكن عظيم ‏"‏ و قال تعالى ‏"‏ فصبر جميل ‏"‏ وحسبك فساداً بقول أدى إلى هذا ومن أحال على العيان والحس والمعقول وكلام الله تعالى فقد فاز قدحه وخسرت صفقة من خالفه‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ ولسنا نقول أن عرضاً يحمل عرضاً إلى ما لا نهاية له بل هذا باطل ولكن كما وجد وكما خلق الباري تعالى ما خلق ولا مزيد وما عدا هذا فرقة دين وضعف عقل وقلة حياء ونعوذ بالله من هذه الثلاث وحسبنا الله ونعم الوكيل ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم‏.‏